ما حاجة الرياض إلى الأسد؟

لم تكشف الرياض عن حيثيات دعوتها مندوب الأسد في الأمم المتحدة بشار الجعفري إلى حفل خاص أقامته بعثتها على شرف وزير الدولة السعودي فهد بن عبدالله المبارك، تحضيراً لرئاسة السعودية الاجتماع القادم لمجموعة العشرين. وكما نعلم ليس من صلة بروتوكولية بين سلطة الأسد ومجموعة العشرين تبرر الدعوة بداعي الإحراج، فالمجموعة بمثابة منتدى للتعاون الدولي في المجالين الاقتصادي والمالي، والمسافة الهائلة بين اقتصاديات أعضائها واقتصاد الأسد تدعو إلى السخرية من دعوة مندوبه قبل تحميله مضامين سياسية.
معلوم أن بشار الجعفري برز بعد انطلاق الثورة بوصفه الوجه القبيح لسلطة الأسد في المحافل الدولية، وكلما أُتيح له التحدث استخدم لغة لا تغيب عنها الشتائم والوقاحة الموجهتين إلى كل الدول التي يعتبرها من خصوم سلطته. لغة الجعفري البذيئة غير جديدة على المسؤولين السعوديين، فبشار الأسد نفسه غداة حرب تموز في لبنان وصف مسؤولين عرب بأنصاف الرجال، ما عُدّ يومها موجهاً بشكل خاص إلى القيادة السعودية الداعمة لمحور 14 آذار الذي انتقد حينها عملية حزب الله التي أشعلت الحرب.

أيضاً، تختلف دعوة الجعفري إلى الحفل الخاص عن دعوة علي مملوك، رجل المخابرات، إلى اجتماع سري في الرياض بوساطة روسية. ذلك الاجتماع أعلنت الرياض عن موجباته وما دار فيه إثر ذيوع خبره، وكان من السهل تبريره كاجتماع عُقد لمرة واحدة، وانفض على اختلاف عميق بين الجانبين اللذين قبلا به بسبب الإحراج الروسي. آنذاك طالبت الرياض علي مملوك، حسبما أعلنت، برحيل الميليشيات الإيرانية مقابل وقف دعم المعارضة ليبقى الصراع سوريا داخلياً. وكانت في وضع أقوى نسبياً بسبب وجود فصائل خاضعة لنفوذها، وأيضاً بسبب الرغبة الروسية في تهيئة قبول إقليمي لتدخلها العسكري وتصويره خارج المحاور المتصارعة في المنطقة.

خلال ما يزيد عن أربع سنوات من عمر التدخل الروسي، كان التنسيق الروسي في أفضل حالاته مع عدوتيّ الرياض، طهران وأنقرة. مسار أستانة انطوى أساساً على استبعاد بقية القوى الإقليمية من الملف السوري، وقد حقق غايته هذه فيما لم يحقق ما ترجوه موسكو كاملاً لجهة فرض نتائجه على الغرب. الرياض، التي فقدت أية نافذة للتأثير المباشر، انكفأت عن التدخل في الملف، وظهر انكفاؤها كاستكمال لنأيها عن الدور السعودي التقليدي في لبنان، لصالح التركيز على ترتيبات البيت الداخلي وعلى الملف اليمني اللصيق بأمنها.

صحيح أن موسكو قدمت إيحاءات عديدة حول تعاظم سيطرتها على سلطة الأسد، على حساب النفوذ الإيراني، إلا أن هذه الإشارات غير كافية للبناء عليها، إذا اعتبرنا مشكلة الرياض مع الأسد محصورة بالنفوذ الإيراني عليه. حتى الآن لم تثبت صحتها تلك الفرضيات عن انفضاض التحالف الروسي-الإيراني جراء التنافس على سوريا، ومنسوب الضغط الممارَس أمريكياً على طهران يضعفها إلا أنه يجعلها أكثر تشبثاً بالتحالف، وهذا ما يرضي موسكو أيضاً التي تجني منه عوائد اقتصادية لا تفكر في التفريط بها. المستجد الأهم في السياق الإقليمي هو وقوف موسكو والرياض على الجهة ذاتها في الصراع الليبي، أي على الضد من أنقرة، بمعنى أن التنسيق بين الجانبين، والانفتاح السعودي على بشار بسببه، يتجاوزان مطلب الرياض القديم المتعلق بتحجيم إيران.

الدور السعودي في سوريا لم يكن مستبعداً تماماً، رغم تهميشه إلى أقصى حد، فالفكرة السائدة أن السعودية ودول الخليج الأخرى لا بد من أن تكون حاضرة لحظة انعقاد التسوية، لأن مشروع إعادة الإعمار المرافق لها يحتاج الدعم الخليجي الذي لن يكون بلا ثمن سياسي مقابل. بمعنى أن الرياض تملك أوراق القوة المالية، فضلاً عن ثقلها السياسي خليجياً، ما يؤهلها لعدم الانفتاح على سلطة بشار قبل الوقت المناسب لمكانتها. ذلك بصرف النظر عن الاعتبارات الأخلاقية الخاصة بالتطبيع مع سلطة إبادة، وبصرف النظر عن الرعاية السعودية المفترضة لهيئة التفاوض، أي توليها الإشراف على الطرف الذي يُفترض أن ينتزع تنازلات من سلطة الأسد.

كنا قد شهدنا في الشهر الماضي تحرك الرياض بعد طول غياب، بدعوتها عشرات المعارضين من أجل انتخاب ثمانية مستقلين جدد في الهيئة العليا للتفاوض، وكانت تلك إشارة إلى عودة الاهتمام بالملف السوري، من دون أن تكون إشارة مماثلة إلى انطلاق العملية السياسية بكل مآخذ السوريين عليها. تحرك الرياض المزدوج، إزاء سلطة الأسد والمعارضة، يعكس قبل أي شيء نجاح موسكو في إذكاء أو استغلال التنافس بين أنقرة والرياض، من دون أن ننسى اللقاء الذي عُقد مؤخراً بين رجل المخابرات التركي القوي حقان فيدان ونظيره الأسدي علي مملوك بوساطتها. ترجيح الدور الروسي في الانفتاح على الأسد مردّه عدم وجود تحرك غربي يضغط في هذا الاتجاه، وكنا قبل أشهر قد شهدنا انفتاحاً إماراتياً مماثلاً تم التراجع عنه بسبب ممانعة واشنطن، أي أن نوايا التطبيع معه لها حسابات سابقة ومنفصلة عن التوجه الغربي الذي يربط التطبيع وإعادة الإعمار بتسوية “مقبولة”.

يزيد الاستغراب من التوجه الجديد أننا لا نجد في حكم بشار ما هو مشجع على التقارب معه، فقبل الثورة السورية بسنوات كان هو من ضرب التوازن النسبي بين السعودية وإيران لصالح الأخيرة في لبنان، وهو أيضاً من ساهم في تسليم العراق إلى إيران عبر نوري المالكي بخلاف الرياض التي كانت تفضّل إياد علاوي الفائز بانتخابات 2010. حتى في عهد الأسد الأب، كانت سياسته قائمة على الاستفادة من المساعدات الخليجية، مع الاحتفاظ بخطاب بعثي يشيطن حكام الخليج بوصفهم رمزاً للتخلف وإهدار الثروات، من دون أن ننسى ريادته في التحالف مع حكم الملالي وبدء تمكينه في المنطقة. المراهنة على أن الوصاية الروسية ستغير في سلوك بشار وهم يشبه المراهنة على السلوك الروسي نفسه، وإذا كان الدور الخليجي مطلوباً نظرياً، وبخلاف ما كان عليه في السنوات الأولى للثورة، وعلى سبيل إقامة قليل من التوازن مع التدخلات الأخرى بما فيها الدور التركي، فإن الحضور عبر الانفتاح على سلطة بشار يهدر تلك الإمكانية، ولا يعِد بأكثر من استكمال ما فعله ثلاثي أستانة.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا