ما وراء تمجيد قاسم سليماني

بعد البودكاست المثير للجدل عن قائد فيلق القدس الإيراني، والذي بثته إحدى منصات «الجزيرة»، غرّد مدير مكتب القناة في طهران منتقداً التسجيل بأنه «لم يكن موفقاً شكلاً ومضموناً وتوقيتاً وتناولاً» على حد قوله. واصفاً العمل بأنه «ترويجي» والحلقة بأنها «مستفزة للكثيرين»، إلى درجة أنها لم تحصد «حتى استحسان غالبية الجمهور الإيراني نفسه بشقيه الموالي والمنتقد». وتابع أن من تحدث بلسان سليماني «قدم جزءاً غير مهم من سيرته دون أي عمق أو سياق مترابط»، أما من نطقت باسم منتقديه فقد أوردت «نقداً ضعيفاً جداً». ولم تكتف الإعلامية «الجزراوية» المخضرمة خديجة بن قنة، المشرفة على أحد برامج منصة الجزيرة بودكاست أيضاً، بإعادة تغريد هذا النقد، بل فعلت الشيء ذاته مع كلام أقسى غرّده أستاذ جامعي عراقي، يعمل باحثاً في مركز الجزيرة للدراسات، قال إن هذا الفيديو «مضلل وفج وتافه»، مكملاً رأيه أن «الإعلام المحترم بحاجة لمحترفين لا هواة وأميين».

من الذي احتفى بالبودكاست إذاً؟ لا أحد غير وكالة فارس الإيرانية شبه الرسمية!! غير أن ذلك لن يبدو غريباً إذا سمعنا الشريط الذي ينطق بنبرة الحرس الثوري، لا أقل، في توجهه ومفرداته.

«سياسة» برنامج «رموز»، الذي اندرجت فيه الحلقة، هي إخفاء اسم الكاتب! الذي يرتكز أثناء الإعداد «إلى البحث في المراجع والمصادر الموثوق بها» دون أن يذكرها هي الأخرى! ثم ترك العنان لبطل الحلقة كي يعبّر عن نفسه «بضمير المتكلم لمقتضيات العمل الدرامي» كما يقول البرنامج، مع إتاحة فرصة للرأي الآخر كي يطلّ عبر مقاطعات يتولاها صوت نسائي تؤديه «سيلينا».

ولذلك يتحدث سليماني بحرية. منطلقاً من نشأته على حب آل البيت، ثم تأثره بثورة «إمامنا الخميني العظيم الجليل»، وانخراطه في الحرب ضد «العدو البعثي العراقي» «الكافر» «الملحد»، وتطلعه لقتال «الشيطان الأكبر» المتمثل في الولايات المتحدة الأميركية إبان تدخلها في العراق، وأذرعها من «المنظمات التي تقاتل بشار الأسد» من «الإرهاب التكفيري» المرتبط بالمؤامرة الأميركية الصهيونية على نظام الحكم في دمشق، الذي يُعدّ «قلعة» من قلاع «المقاومة» في الطريق الطويل إلى القدس!

هذه خلاصة مجتزأة للحلقة التي امتدت 26 دقيقة، وتخللتها مقاطعات باهتة وباردة من الرأي الآخر لم تؤثر على سياقها الافتخاري وطابعها التبجيلي. ومن المعروف أنها أثارت انتقاداً عارماً، ولا سيما بين السوريين، الذين طالبوا بحذفها والاعتذار عنها، وهو ما لم يحدث.

بدلاً عن ذلك لجأت الجزيرة بودكاست إلى خيار من شقين؛ الأول هو إجراء تعديلات على الحلقة، والثاني هو بث حلقة «استثنائية» توضيحية. ومن الصعب تحديد أي الشقين كان أكثر سوءاً من الآخر!

إذ إن التعديلات التي أجريت على الحلقة اقتصرت على «فتقها» في أماكن عديدة وزيادة مرات مقاطعة «سيلينا» لسليماني الذي لم يجرِ على نصه تعديل يذكر، مستمراً في سرده دون أن يهتم لهذه الزوائد التي زُرعت لاحقاً وصناعياً في ثنايا تسجيله، وجاءت طويلة ومملة ومحشوة بمعلومات تفصيلية لا يتحملها سياق الحلقة، وأضافت لها سبع دقائق افترض القائمون على العمل أنها ستُبرّد قلوب المنتقدين. أما الحلقة الاستثنائية فقدّمت، للمستمع الذي لم يسعفه الحظ بسماع إحدى تسجيلات «رموز» سابقاً، توضيحاً عن منهج التلقي «المطلوب»، تضمن لغواً إنشائياً ومشهداً تمثيلياً عن «الرأي الآخر»، يبدو وكأنه موجّه لليافعين.

ما هو أعمق من الخلاف حول هذه الحلقة، وقبله الغضب الذي حصدته خطوة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بالتعزية بسليماني؛ يقبع توتر أكثر أهمية حان أوان طرحه منذ وقت بعيد، بين القضية الفلسطينية، التي جرت العادة على وصفها بأنها قضية العرب المركزية أو الكبرى، وبين قضايا الشعوب العربية الأخرى من دول الإقليم، كالسوريين والعراقيين واللبنانيين والأردنيين، وقبلهم المصريين.

فقد أرسى التيار القومي العربي في خمسينات وستينات القرن العشرين، وتفريعته الجزئية المعروفة باسم التيار القومي الإسلامي منذ الثمانينات، قدسية خاصة للدم الفلسطيني رفعته فوق مستوى تضحيات وحيوات الشعوب العربية في «دول الطوق» وغيرها، الذين كان عليهم أن يعانوا لعقود طويلة من مزيج من القمع السياسي وعسكرة الحياة العامة وتسخير الموارد في سبيل قضية فلسطين، غير القابلة للنقاش تحت طائلة التخوين والاتهام بالعمالة لإسرائيل.

تحت حلقة سليماني يقبع هذا النوع من التفكير؛ لا بأس من تغول حزب الله على الدولة في لبنان وتمدده خارجاً، ولا ضير من قتل مئات آلاف السوريين وتهجير ملايينهم وتدمير بلدهم، ولا من الأوضاع المستعصية والفساد المعمم الذي يعانيه العراقيون، ولا من أزمات الداخل الإيراني اقتصاداً وسياسةً وحريات عامة… فكل ذلك محض هراء أمام الطريق السحري نحو القدس، الذي يبدو مضرجاً وكثير المحطات الفرعية، وبلا نهاية.

ومن الملحوظ أن علامات متزايدة على التململ من هذا الوضع باتت تظهر بين شعوب المنطقة، وتتراوح بين الدعوة الخجولة إلى التركيز على الاستحقاقات الوطنية، وبين أمارات «الكفر» بقضية فلسطين ونقد حامليها والتشكيك فيهم، وحتى قراءة تاريخها بأثر رجعي يهدف إلى تفكيك ثوابتها، وربما تلطيخها، بشكل يمكّن من التملص منها.

ولذلك فإنه على حاملي لواء هذه القضية أن يعوا أن ما يفرزونه من إنشاء، مكتوب أو فني، ليس مجرد وسيلة كسولة لتزجية أوراق الصحف وملء ساعات البث، بل هو استفزاز مؤثر ينعكس على فلسطين نفسها. فلا دماء أطهر من دماء. وليست هناك قضية خمس نجوم، مسلّطة فوق إرادات الشعوب التي عانت كثيراً من أنظمتها التي طالما تستّرت بالقدس، حتى اهترأ هذا القميص أو كاد!…

المصدر تلفزيون سوريا


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا