من يكتب دستور سوريا الجديد

السوريون المنهكون من الحرب والموت والفقر والتهجير ، والمعلقون ب “حبال الهوا” ، كما يقال ، قد يكونون وحدهم من “فوجئ” بفشل الجولة الخامسة للجنة الدستور السورية في جنيف . فقد تحولت سوريا منذ زمن بعيد إلى “بلد المفاوضات الأبدية في الصراع الأبدي” ، كما قال موقع “Forbes” الناطق بالروسية ، إثر فشل الجولة الثالثة من مفاوضات منصة أستانة العام 2017 . وطرح الموقع يومها سلسلة من الأسئلة ، التي تطرح بعد كل جولة مغاوضات بشأن سوريا ، وختمها بالسؤال المصيري ، الذي يطرحه كل سوري بعد كل مفاوضات : ما الذي سيحصل لسوريا؟

السؤال عينه يطرح نفسه الآن ، بعد فشل مفاوضات جنيف الأخيرة ، وخروج الجميع منها محبطاً ،  ما عدا النظام السوري ، الذي لمح مندوب الأمم المتحدة إلى مسؤوليته عن هذا الفشل . وتبدو الآن مسألة وضع دستور جديد لسوريا هي العنوان الرئيسي للعملية السياسية المتعثرة للخروج من الأزمة السورية . لكنه من الواضح ، أنه لا يمكن إختصار المأساة السورية بمسألة وضع دستور جديد ، ليست في حقيقتها سوى توضيح النوايا الحقيقية لجميع الأفرقاء ، الداخليين والخارجيين ، بشأن الخروج من هذه المأساة.

الحال السورية الراهنة ، أكثر عمقاً ومأساوية بكثير من مسألة صياغة دستور جديد ، على أهميته في مسار العملية السياسية للخروج من المأزق. وعلى الرغم من دبلوماسية بيانات الأمم المتحدة وممثلها ، إلا أن مقتطفات التقرير ، الذي قدمه غير بيدرسن أمام مجلس الأمن الدولي عشية مفاوضات جنيف ، ونشره مكتب المنظمة في موسكو ، يقدم صورة مفجعة لسوريا اليوم . يقول التقرير ، أن الأشهر العشرة الأخيرة في سوريا ، كانت الأكثر هدوءاً منذ بداية الصراع ، إلا أن هذا الهدوء قد يُخرق في أي لحظة . وينقل عن منسق الإغاثة الطارئة مارك لو كوك ، أنه على الرغم من هذه الهدنة ، إلا أن السكان المحليين هم في وضع يرثى له.

ويقول بيدرسن ، أن الهدنة ليست هشة وحسب، بل هي نسبية جداً . فالمدنيون السوريون يقتلون نتيجة تبادل إطلاق النار والعبوات الناسفة، وتحيط بهم، كما في السابق، مخاطر عدم الإستقرار والإعتقالات غير القانونية والخطف ، والجرائم الجنائية وهجمات المجموعات المصنفة إرهابية في الأمم المتحدة . وقال ، بأن العملية السلمية لم تؤد حتى الآن إلى تحسن فعلي لظروف الحياة ، ودعا إلى هدنة في أنحاء البلاد ، وإحراز تقدم في مسائل تبادل الأسرى والمخطوفين ، وتأمين الوصول إلى المحتاجين للمساعدات ، والتعاون في مجال الصراع ضد المنظمات الإرهابية.

وذكّر بيدرسن بأن جيوش خمس دول تنشط على الأراضي السورية ، ولذلك ليس بوسع الأمم المتحدة ، أن تدعي القدرة على العمل منفردة ، أو أن تقول ، بأن الحل يتوقف على السوريين فقط . ولم يشر إلى أية توقعات لنتائج الجولة الخامسة من مفاوضات جنيف ، إلا أنه عبر عن خيبة أمله من هذه النتائج ، بعد إختتام أعمالها ، وقال ، بأنه لا يمكن مواصلة إجتماعات اللجنة دون منهجية مختلفة وواضحة.

في موسكو ، وباستثناء أنباء الجولة الخامسة لمفاوضات جنيف، كان إهتمام المواقع الإعلامية شبه معدوم، وذلك لانهماكها مع المسؤولين وكل روسيا بالإحتجاجات، التي تعم روسيا للأسبوع الثاني على التوالي من أقصى شرقها الآسيوي إلى أقصى غربها الأوروبي. وتكاد تكون صحيفة “الإزفستيا” الموقع الوحيد ، الذي نشر نصاً مطولاً حول مفاوضات جنيف ، ورأت أن لا توافق بين الآطراف ، وأن شجاراً نشب في صفوف المعارضة، وأن تركيا تنوي شن هجوم جديد على الأكراد . ويقول موقغ وكالة الأنباء البيلوروسية “24.by” ، أن مفاوضات جنيف بشأن الدستور السوري الجديد إنتهت من دون تقدم . وأشار إلى أن الولايات المتحدة وعدداً من حلفائها الغربيين إتهموا الرئيس السوري بشار الأسد، في تعمد تأخير بلورة مشروع للدستور الجديد قبل الإنتخابات الرئاسية هذه السنة، لتحاشي التصويت تحت رقابة الأمم المتحدة.

أما موسكو الرسمية ، ومن خلال اللقاءات ، التي عقدها وزير الخارجية لافروف ونائبه لشؤون الشرق الأوسط ميخائيل بوغدانوف مع ممثلي منصتي موسكو والقاهرة في المعارضة السورية ، فقد بدت معنية فعلاً بالتوصل إلى نتائج إيجابية في مفاوضات جنيف ، خصوصاً فــــــــي هذه المرحلة الإنتقالية للسلطة فــي واشنطن . ولعل ما صرح به رئيس منصة موسكو قدري جميل ، في إطلالته على التلفزة الروسية ، من تحذير للأسد من التعنت بشأن الإنتخابات الرئاسية السورية خلال السنة الجارية ، يؤكد رغبة موسكو في التوصل إلى بلورة صيغة نهائية للدستور السوري الجديد قبل هذه الإنتخابات.

كانت موسكو صاحبة المبادرة الأولى في طرح فكرة الدستور الجديد لسوريا ، ووضعت العام  2017 صيغة روسية لهذا الدستور، كانت أسوأ من الدستور الحالي، برأي خبراء روس ، وواجهت إنتقاداً شديداً من النظام والمعارضة السورية معاً. وموسكو أطلقت مبادرتها ، لأنها تعتبر نفسها الطرف المؤهل أكثر من بقية الأطراف لوضع دستور جديد لسوريا ، حتى أكثر من السوريين أنفسهم.

نائب مدير المجلس الروسي للعلاقات الدولية، السفير الروسي الأسبق في سوريا ، ألكسندر أكسنيونك ، كتب العام 2019 على موقع “منتدى فالداي” للحوار الدولي ، بأن روسيا وتركيا وإيران توافقت على مبدأ عدم تدخل أي بلد في عمل لجنة الدستور السورية . ويشمل هذا الشرط عملية المفاوضات بين أعضاء لجنة وضع نص الدستور ، وكذلك مواعيد إنجاز العمل في هذا النص ، الذي ينبغي أن يكون نتيجة توافق . ويشك الكاتب في قدرة السوريين على تطبيق هذا الشرط ، سيما وأنه ليس من عضو في اللجنة بوسعه ، أن يشعر بنفسه متحرراً من المصالح السياسية وحتى العشائرية . إضافة إلى ذلك ، لم يتم الإلتزام  بالإتفاق المبدئي بشأن التساوي في عدد ممثلي الحكومة والمعارضة والمجتمع المدني ، واستمر طويلاً الخلاف حول الثلث الممثل للحكومة في حصة المجتمع المدني في اللجنة المصغرة ، “إنتصرت” في نهايته الحكومة.

حين أعلنت روسيا مطلع العام 2017 عن نصها للدستور السوري ، كتب المستشرق ليونيد إيساييف في موقع “كارنيغي” موسكو نصاً بعنوان “لماذا كتبت روسيا دستوراً لسوريا” . قال المستشرق ، أن المشروع الروسي يتضمن الكثير من الغرائب والنواقص ، لكن ليس هذا مهماً بالنسبة لها ، ولا إن كان سيقر أو لا ، بل المهم هو أن يدفع  عملية نقاش مستقبل النظام السياسي في سوريا ، ويشجع على ظهور مشاريع دستور بديلة.

وعلى الرغم من الظهور المفاجىء للمشروع الروسي للدستور الجديد إلا أنه يتسق تماماً مع الإستراتيجية الروسية العامة في الصراع السوري . فقد قررت موسكو إستغلال فترة إنتقال السلطة في واشنطن من أوباما إلى ترامب ، لمحاولة القبض على المبادرة في الوضع السوري ، وفرض قواعدها الخاصة للعبة (تماماً كما تجهد الآن لبلورة صيغة دستور سوري جديد في المرحلة الإنتقالية في واشنطن).

لكن ، إذا كانت روسيا تلقي كل هذه المهمات على الدستور السوري الجديد ، وتشكك في قدرة السوريين على وضع دستور جديد،  فهل ستترك مهمة كتابة هذا الدستور للسوريين ، أم أنها ستمرر ، عبر قنواتها الكثيرة ، الصيغة التي تكتبها هي؟

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا