موقع سورية من “حرب الشمال الأولى” مع إسرائيل

لم تغب الساحة السورية عن التقديرات العسكرية والأمنية الإسرائيلية منذ سنوات طويلة، بل بقيت مدرجة على أجندتها، بسبب حدودهما المتلاصقة من جهة، أو المصالح الأمنية الإسرائيلية في هذه الساحة من جهة أخرى، أو تزايد أعداد اللاعبين الإقليميين والدوليين فيما تزعم أنها “حديقتها الخلفية” من جهة ثالثة.

آخر هذه التقديرات الإسرائيلية ما أصدره معهد دراسات الأمن القومي (INSS) التابع لجامعة تل أبيب، من تقييم استراتيجي الذي سلط الأضواء على أهم التهديدات الأمنية الإسرائيلية في العام الجديد 2021، وقد بدا واضحا تزايد الإشارات بصورة لافتة عما بات يسمى في الأدبيات العسكرية الإسرائيلية “حرب الشمال الأولى”، التي تتضمن حربًا متعددة تخوضها إسرائيل ضد عدد من الساحات: الشمالية وتشمل النظام السوري وحزب الله والميليشيات الموالية لإيران، والشرقية وتشمل غرب العراق.

حذر التقدير الاستراتيجي الإسرائيلي أن احتمال اندلاع “حرب الشمال الأولى” في 2021، ليس ضعيفًا، ورغم ما تدعيه إسرائيل من فعالية قوتها الردعية، لكن حالة عدم الاستقرار الإقليمي، والاحتكاك المستمر مع تلك الأطراف، يزيدان من فرص خروج التدهور عن السيطرة، وبالتالي تحقق ذلك السيناريو الذي تتحضر له مختلف الأطراف.

يتزامن هذا التقييم الإسرائيلي مع تزايد الضربات الجوية في الأيام والأسابيع الأخيرة باتجاه الأراضي السورية، سواء ضد أهداف تابعة للنظام السوري، أو قواعد عسكرية إيرانية، أو قوافل أسلحة متجهة إلى حزب الله، الأمر الذي قد يتطور مع مرور الوقت إلى إمكانية اندلاع مواجهة عسكرية مع إسرائيل في حال واصلت عمليات القصف، التي تستهدف منصات إطلاق، وصواريخ بحرية.

صحيح أن عمليات القصف الإسرائيلية في الأجواء السورية تدل على أنها ما زالت تحافظ على تفوقها الاستراتيجي، وتؤكد امتلاكها اليد العليا في الجبهة الشمالية، وهو ما تكرر عشرات المرات خلال السنوات الماضية، بفضل المعلومات الاستخبارية الدقيقة، من أجل محاربة أي تهديد عليها يتجاوز ما تصفها بـ”الخطوط الحمراء” التي وضعتها.

لكن ذات التقييم الاستراتيجي المذكور يدعو دوائر صنع القرار في إسرائيل إلى عدم الانجرار لأجواء “حرب الشمال الأولى”، فالنظام السوري وإن دأب على عدم الرد على الهجمات الإسرائيلية، لكن الأمر يستلزم الاحتياط مستقبلا، رغم أن إسرائيل تفعل ما تشاء في الأجواء السورية: تهاجم ما تريد، أينما تريد، ومتى تريد.

وصحيح أيضاً أن بشار الأسد مشغول بمعالجة إخفاقاته الداخلية، وروسيا من جهتها غير معنية بأي خلاف مع إسرائيل، طالما أنها لا تهدد مصالحها بسوريا، أما إيران فمنشغلة بمشكلات أخطر وأكبر من المواجهة مع إسرائيل، لاسيما مع اقتراب تنصيب بايدن رئيسا للولايات المتحدة.

لكن تكرار الهجمات الإسرائيلية في سوريا قد تجعلنا أقرب من أي وقت مضى لاندلاع مواجهة عسكرية في الشمال، في ظل ارتفاع مستوى التوتر، وإمكانية الصدام المسلح، وقد تضطر لخوض معركة أصعب من أي مواجهة سابقة، في ظل أن الحدود المشتركة بين لبنان وسوريا باتت مشتتة ومعقدة، مع زيادة التأثير الإيراني، ومصالح الأطراف المتشابكة فيها.

في الوقت ذاته، فإن تداول مصطلح “حرب الشمال الأولى” ينطلق من فرضيات إسرائيلية مفادها أن مواجهة عسكرية إسرائيلية مع سوريا وإيران باتت في الطريق، في ظل استمرار تلك الهجمات الإسرائيلية، وما يعنيه ذلك من أن الجبهة الشمالية آخذة بالتصعيد مع مرور الوقت، رغم أنها تأتي تطبيقا لسياسة عدم تجاوز الخطوط الحمراء التي وضعتها الحكومة الإسرائيلية، وتتعلق بمنع قيام وجود عسكري إيراني في سوريا.

رغم ذلك، فإن هذا الهجوم سيزيد من حدة التوتر الأمني، وإن تطور الأمر فلن يقتصر على الأراضي السورية، بل قد يشمل كامل حدود الجبهة الشمالية، بما يعني لبنان، وهو بيت القصيد في هذا المصطلح الجديد.

هناك معطى عملياتي قد يشجع إسرائيل على الذهاب بعيدا في التعاطي المبكر مع “حرب لبنان الثالثة” ، ويتعلق بأن حرية الحركة الإسرائيلية في أجواء سوريا لم تتقلص، رغم أن أضلاع المثلث المكونة من روسيا وإيران والأسد، تزعم أنها من ستحدد مصير سوريا المستقبل، ولو كان ذلك من خلال استمرار المذابح التي شهدتها مختلف المدن السورية، ورغم ذلك فإن استمرار الهجمات الإسرائيلية جاء لترسيخ القواعد المتفق عليها بما يحصل داخل سوريا، لاسيما في ظل وجود لاعبين إقليميين كثر.

ربما يصعب الحديث عن “حرب الشمال الأولى” بمعزل عن التعزيزات العسكرية التي شهدتها المنطقة مؤخراً من حيث الغواصات البحرية الضخمة، وتوافد المسؤولين العسكريين الأميركيين، الأمر الذي يشير بالضرورة إلى أن هناك تنسيقا إسرائيلياً أميركياً لما يحصل في سوريا، لكن أحيانا يعمل كل طرف وفق مصالحه، وليس لتحقيق أهداف الطرف الآخر، مع موافقة أميركية لا تخطئها العين على منح إسرائيل حرية عمل واسعة في كثير من الأجواء المجاورة والبعيدة عن حدودها، بما فيها سوريا.

في جانب آخر، يأتي ترديد إسرائيل لمصطلح “حرب الشمال الأولى” بمثابة إشهار للبطاقة الحمراء بوجه طهران، ما يشكل تمهيدا لأي عملية عسكرية إسرائيلية ضد صواريخها المنتشرة في الأراضي السورية، وفي الوقت ذاته لعله يأتي رغبة إسرائيلية في إرسال رسائل للرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ لكبح جماح النفوذ الإيراني المتزايد في سوريا؛ خشية فقدان سيطرته عليها.

تظهر الصور التي تخرج بين حين وآخر عقب الهجمات الإسرائيلية على سوريا أننا أمام صواريخ وقذائف ذات رؤوس متفجرة ثقيلة، يصل وزنها مئات الكيلو غرامات، قادرة على الوصول لمئات الكيلو مترات، بما فيها تغطية كل مساحة إسرائيل، وقد سبق لها أن هاجمت في سوريا مستودعات ومخازن أسلحة ذات مديات مختلفة، مع أن نشر هذه الصور من شأنه بث مزيد من المخاوف لدى الرأي العام العالمي حول ما تشكله إيران من مخاطر، ليس على إسرائيل فحسب، وإنما على كل دول الشرق الأوسط، والقارة الأوروبية بأسرها.

إسرائيل من جهتها تستغل نشر هذه الصور بتحريض موسكو من تبعات التزايد في التأثير والنفوذ الإيرانيين داخل الأراضي السورية، لاسيما في حال نشوب حرب بين إسرائيل من جهة، وبين سوريا وإيران وحزب الله من جهة أخرى.

تجدر الإشارة إلى وجود تيارات إسرائيلية أخرى ترى أنه ليس من الصحيح فتح الجبهة الشمالية في حرب ضد إيران في هذه المرحلة، رغم أن ذلك لا يتعارض مع استمرار إسرائيل في العمل بدقة ضد الأهداف الإيرانية المحددة داخل سوريا وخارجها، كما فعلت في السابق، وبصورة ضبابية، دون عناوين إخبارية فاقعة.

خطأ آخر قد تقع فيه إسرائيل يتعلق بربط الجبهة السورية مع نظيرتها اللبنانية في الحرب ذاتها التي قد تندلع؛ لأننا بالعادة دأبنا على الفصل بين الجبهتين، ما يطرح تساؤلات عن جدوى وصوابية التوجه الإسرائيلي هذه المرة لربطهما، ضمن ما باتت تسمى “حرب الشمال الأولى”، لمواجهة الجبهة العسكرية الجديدة الموحدة التي تقيمها إيران ضد إسرائيل، التي ستعمل انطلاقا من سوريا ولبنان.

حافز جديد قد يدفع للأمام فرضية “حرب الشمال الأولى” يتمثل بمواصلة إسرائيل لعملياتها السرية داخل إيران، ورغبة الأخيرة بجعل سوريا بوابة لانتقامها من إسرائيل، وبالتالي فإن توترهما الأخير قد يدفع طهران للتحرش بتل أبيب عبر جبهات عسكرية أخرى، ومنها سوريا، مما يتطلب من الأخيرة التهيؤ لمثل هذا التطور؛ لأنه قد يحصل باستهداف مواقع داخل إسرائيل أو خارجها، بزعم أنه كلما بدا أن إسرائيل ذات اليد العليا في المواجهة الدائرة، فإن إيران ستبقى تواصل البحث عن خاصرتها الرخوة؛ لاستهدافها من خلالها.

هنا يظهر التوجس الإسرائيلي عن امتلاك الإيرانيين قدرة توجيه ردود كثيرة ضد إسرائيل عقب مهاجمتها لقواعدها في سوريا مؤخرا، لكن ذلك لا يعني أن يتم الرد مباشرة على إسرائيل، بل قد تكرر ما فعلته في السابق حين “استخدمت” الأراضي السورية لتنفيذ انتقاماتها المتراكمة منذ خمس سنوات على الأقل!

الخلاصة أن “حرب الشمال الأولى” من وجهة النظر الإسرائيلية تسعى لتحقيق ثلاثة أهداف تتعارض مع التوجهات الإيرانية في سوريا، وأولها تقوية الترسانة العسكرية لحزب الله بتزويده بأسلحة كاسرة للتوازن، وثانيها إقامة قواعد عسكرية تواجه إسرائيل بشكل مباشر، وثالثها إنشاء بنية تحتية لمصانع ومشاغل لأغراض مختلفة يحظر عيها إقامتها في أراضيها بسبب القيود الدولية، تكون بعيدة عن الرقابة الدولية، من بينها بنى خاصة بالمشروع النووي.

المصدر تلفزيون سوريا


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا