ندمٌ وضيع على الثورة

“إلى حسان عباس”

حظيت ذكرى الثورة السورية هذه السنة بهجمة استباقية، هجمة يحذّر أصحابُها من الاحتفاء بالثورة في ظروف هي الأقسى التي يعاني منها السوريون، سواء من هم تحت سيطرة الأسد أو الذين يعيشون مأساة التهجير في مخيمات الداخل والخارج. وهي أيضاً هجمة اعتباطية بما فيها من سوء فهم، بعضه عفوي وبعضه متعمد، وبين ما هو عفوي ونظيره المتعمد تطل دوافع ومآرب متخالفة، إلا أن تخالفها يضيع جراء التعبير المشترك، وبسبب ما ظهر أشبه بتقسيم السوريين بين نادم وغير نادم على الثورة.

كانت منابر عربية وغريبة قد أفردت حيزاً من استطلاعاتها لفكرة الندم على الربيع العربي، فمرور عشر سنوات يُغري بتقديم تلك الاستقصاءات التي تبدو ناجزة لجهة استخلاص العبر والدروس. وإذ لا يمكن تبرئة طرح فكرة الندامة لدى الجميع، علينا ألا ننسى جاذبيتها العاطفية لدى من أنهكهم مشروع تغيير متعثر في بعض الدول، أو مشروع استعصى كلياً كما هو حال سوريا. الندامة، وفق هذا السياق، توقٌ عاطفي إلى الاستراحة من دفع أثمان، ليبرز ذلك الماضي رغيداً باستقراره، وبعدم تطلّبه ثمناً سوى تلك الأثمان المعتادة خلال عقود سابقة.

الوضاعة تتسلل من استثمار لحظة التعب الإنساني تلك، لتأصيل فعل الندامة، ولمنحه ثقلاً فكرياً مستداماً ينقض فكرة الثورة كما حدثت، وكما يمكن لها أن تحدث لاحقاً. تتسلل الوضاعة الأخلاقية لتستغل لحظة الحزن والانكسار، ولتتاجر ببؤس أولئك الذين لم يستطيعوا امتلاك أصواتهم. إنها تتحدث باسمهم، أكثر مما تسمح لهم بالتحدث أصالة عن أنفسهم، وهي تتحدث باسم أسوأ مآل وصلوا إليه، لا باسم آمالهم الكريمة ولو في أكثر حالاتها تواضعاً.

وهي ليست وضاعة أخلاقية فحسب، إنها وضاعة فكرية موصوفة. ففعل الندامة يتوجه بالاعتذار إلى الماضي، لا بوصفه فقط زمنَ اتقاء شروره، بل لتبرئته من المسؤولية عن الحاضر. في حالتنا، تغيب صورة بشار وحلفاؤه الذين أبادوا ودمروا وهجروا، لتحضر صورته قبل الثورة عندما لم يكن لديه سبب للإبادة والتدمير والتهجير، ولم يكن لديه سبب لاستدعاء حثالات الأرض من ميليشيات وأنظمة حليفة مضادة للحرية من حيث المبدأ. قد تتقنع الوضاعة الفكرية بمنطقها الخاص، فتذكّر الذين ثاروا بأنه يعرفون دموية النظام واستعداده المعلن لحرق البلد، وعليه كان يجب عدم إعطائه ذريعة لتنفيذ وعيده.

ينبغي التزود بالكثير من الضحالة للوصول إلى استنتاجات تدين الحاضر لصالح الماضي، وكأن الأخير لم ينجب الأول. هذه الوضاعة الفكرية تتجاهل كلياً هذه البديهية، وتتناسى أن الذي أتى بالثورة هو انسداد الأفق التام أمام المنظومة الحاكمة، بعدما استنفذت فرصها كاملة. أسوأ وأقسى خيار تضطر الشعوب إليه هي الثورة، وغالباً لا تلجأ إليه إلا عندما تُستنفذ طاقتها على الصبر والتحمل. مَن يصنع الثورة، بالمعنى الفعلي العميق، هي المنظومة المتحكمة بمفاتيح القوة، لا تلك الغالبية الساحقة المسحوقة.

للتذكير، نحن نتحدث عن سلطة مرت بمحطات عديدة راكمت من خلالها انسداد الأفق الخاص بها. ما استخلصته مثلاً هذه السلطة من المواجهة من الإخوان، في نهاية السبعينات، كان ضرورة إحكام القبضة المخابراتية أكثر من قبل على جميع السوريين، ومنافسة الإخوان في السيطرة على الدين. ولم تتراخَ القبضة الأمنية إلا قليلاً مع البدء بمشروع التوريث، وكان وعدها للخارج قبل الداخل بمزيد من الانفتاح في عهد الوريث. صبر السوريون على أمل وفاة الطاغية ووعود ابنه، وقد رأينا كيف انقض الأخير على المعارضين وعلى ظاهرة المنتديات، رغم أن قسماً منهم كان يبشّر بإصلاحات يقودها هو بنفسه، ولو نفّذ القليل القليل مما وعد به لما أوصل البلاد إلى ما وصلت إليه. كذلك كان تعامل عسكره ومخابراته مع الانتفاضة الكردية في آذار2004، بالرصاص الحي والاعتقالات العشوائية وتعذيب المعتقلين. لم يختلف الأمر خارجياً، فبعد اغتيال رفيق الحريري كانت رسالته اغتيال مناوئين آخرين له، وتوعّدُ الباقين بمزيد من الاغتيالات.

هذه المنظومة لا تستطيع سوى أن تكون رستم غزالي في لبنان وعاطف نجيب في سوريا. لا تستطيع، وهي تبذل كل طاقاتها لمنع التغيير السلمي الديموقراطي، إلا أن تُراكمَ أسباب الثورة ضدها. الندم الوضيع هو ذاك الذي لا يريد استيعاب الحتمية التي تصنعها المنظومة بإرهابها ونهبها الذي لا يشبع، هو ندم يفكر أصحابه بعقل السلطة نفسها، ويحاول تحقيق المستحيل الذي فشل الطغاة في تحقيقه عبر التاريخ.

هذه ليست دعوة مضادة تشجيعاً على الاحتفال بالثورة، فالاحتفال الذي يحمل معناه الحقيقي هو الذي يكون متاحاً لكافة السوريين في مختلف أنحاء سوريا. هو الاحتفال الذي امتنع بفعل الدعم الخارجي لبشار الأسد، الدعم الذي لم ينل مثله طاغية من أولئك الذين استهدفتهم ثورات الربيع العربي. بدوره أثبت هذا الدعم أن معاندة التاريخ باهظة الثمن، فالإبقاء على بشار اقتضى دمار سوريا بأكملها، وحتى أنصار بشار الذين شجعوا على الإبادة، وكانوا يطالبون باستخدام الكيماوي وبمسح مناطق بأكملها وزراعتها بالبطاطا قسم كبير منهم اليوم غير قادر على شراء البطاطا.

ثمة ندم آخر، ثمة حزن مستحق بشدة، هو الحزن على ما آلت إليه الأحوال خاصة والعامة، وهو الندم على السوء الذي واكب به مَن تصدروا المشهد ذلك الزلزالَ الإجباري المسمى ثورة. هنا موضع للندم والحسرات يحتمل الكثير الكثير من النقد، موضع يجب أن يتواضع أصحابه فلا يرون أنفسهم مفجّري حدث تاريخي، ويجب أن يتواضعوا أكثر ليروا كيف أساؤوا خدمة هذا الحدث الاستثنائي.

هناك ممر ثالث بين الندم الوضيع الذي يريد الأرض مسطحة، وأولئك الذين يظنون أنفسهم محرّكي دوران الأرض. لقد كتب الراحل حسان عباس في هذا المنبر قبل سبع سنوات بالضبط: سمّوها ما شئتم، انتقدوها كما أحببتم، اخدعوها، راودوها، تحايلوا عليها، احفروا الأرض تحت أقدامها، لوّنوها، إلعنوها، افعلوا ما شئتم. فهي، وبمحاكاة لما قاله غاليليو غاليليه لمُرهبيه: ومع ذلك فهي تثور. هي باقية، وهي أصلاً لم تبدأ إلا لتبقى حتى تصل إلى ما يريده أهلها: حياة كريمة بلا ظلم أو ظلامية.

نعم.. مع ذلك هي تثور، وسوف تثور أحببنا أم كرهنا، سوف تثور حتى تنتفي أسباب الثورة. الفاشلون لا يصنعون التاريخ، ولا تصنعه الندامة أيضاً.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا