نظام الأسد غير قابل للإصلاح… ولا للمصالحة

من البديهي أنه من متطلبات أي حل سياسي أن تعي أطراف النزاع، والمصالحة، أن عليها أن تقدّم تنازلات مؤلمة في سبيل الاتفاق المنشود. ومن المعروف أن النظام السوري لا يضع هذه المسألة في حسبانه، منذ أن اقترحها عليه أصدقاؤه القدامى في بداية الثورة وحتى المطالبات الخجولة المتقطعة لحلفائه الجدد في الحرب بإجراء بعض الإصلاحات هنا أو هناك، التي كان يُدخلها في زواريب التمييع والتجزئة وتمرير الوقت.

تعرف الجهات الدولية هذا جيداً، كما تعرفه أطراف سورية وقعت مضطرة في فك «المصالحات» التي تمخضت عن مزيج من التهجير والتجنيد والاعتقال أو، في الحد الأدنى، العيش الحذر تحت قبة أمنية مشددة. هذا واقع تسجله المشاهدات وتدونه التقارير الأممية، وليس مجرد «تشدد ثوري» كما قد يحلو لبعض غير المطلعين أو المراوغين وصفه. بل إن جهة أقرب إلى النظام من جمهور الثورة، وهي «الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا»، لم تستطع أن تحصل منه على أي تنازل أو اعتراف، رغم أنها ما خلعت سلطانه، فحافظت على وجود مؤسساته في أراضيها، وظلت تقول بأنها جزء من «الدولة السورية» التي يحكمها.

هذا نظام متعنت مكتف بذاته، قانع بما يجريه هو من «إصلاحات». فمقابل اللامركزية لديه المرسوم التشريعي 107 لعام 2011، المتضمن قانون الإدارة المحلية، وبدل الفصائل يفرض تجنيد الأفراد في جيشه وميليشياته، مع إبقاء الباب مفتوحاً أمام محاسبة أي منهم على ماضيه. إنه نظام التسوية الأمنية والإخضاع وليس نظام مصالحة بأي شكل. وهو ما يفرضه على الأفراد كما يلوّح بفرضه على المناطق التي ما زالت خارج سيطرته إن استطاع ذلك، وبالأسلوب نفسه. ولذلك فإن أي بحث عن حلول وسط معه هو إضاعة للوقت. ولكن بما أن وقت السوريين، ودمهم، بات مفتوحاً، فإن الضيق بحالة الاستعصاء هذه يدفع أطرافاً متعددة، وبشكل متناوب، إلى إعادة البحث عن مرونة مفقودة ربما تكون قد استجدت لسبب أو لآخر. وقد أثبتت السنوات الماضية خيبة أمل كل من جرّب تعويم النظام أو مصالحته أو الانفتاح عليه من دون قبول الشروط المتصلبة التي يرغب في فرضها على الأفراد والجماعات وحتى الدول.

منذ 2011 يعرف النظام أن قبوله أي إصلاحات جدية يعني بداية انهيار بنيانه الآيل للسقوط والمحاسبة. يوم كانت هذه الأخيرة تطول عدداً محدوداً من المتورطين، فكيف وقد وصلت أعداد الضحايا والمفقودين إلى أرقام غير معقولة. لقد أحرق مراكبه منذ وقت بعيد وأغلق أي طريق للعودة. وهو يعيش اليوم بحكم الأمر العسكري الواقع بانتظار «حل» مجهول. وفي غضون ذلك يتشاغل ببعض الملفات الداخلية الثانوية ويعرف أن خياره الاستراتيجي هو نفسه، «الأسد أو نحرق البلد»، الشعار الذي بدا هتافاً أخرق قبل أن يتكشف عن وصفة وجود شرسة وحيدة.

ومن هنا كان على جمهور الثورة ألا يجزع، أو أن يجزع أقل، من بعض التصريحات التركية الأخيرة. فالطريق إلى الأسد مغلق بفعل تعنته هو نفسه أولاً، مهما فكر الآخرون بالتجسير معه. فمن البديهي أن أحداً لن يطرح عليه استعادة سلطاته المطلقة وطي صفحة الماضي من دون أن يجري تغييرات جذرية قد تطوله. هذا غير ممكن إلا في كوابيس يقظة بعض الثوار الذين أفقدهم الإعياء المديد قدرتهم على انتظار حد أدنى من العدالة. وإذا كان تعقيد المسألة السورية، وتعدد الفاعلين على أرضها، هو ما يعيق الوصول إلى انتقال سياسي يوازي هذه التضحيات الضخمة؛ فإن العوامل نفسها تنهض سداً منيعاً أمام أي تسوية شكلية. وإن كان الموقف الأميركي، خاصة بعد قانون قيصر، والأوروبي، ليسا فاعلين بالدرجة الكافية، فإنهما، حتى بهذا الجمود، كافيان لمنع تعويم الأسد وإبقاء ملف محاسبته على الطاولة إلى أن تسمح الظروف.

ومن جهة أخرى يعاني النظام من مشكلات بنيوية ذاتية تعيق اندراجه في المصالحة. فقد تصلب جمهور مؤيديه، ولا سيما الطائفيين منهم، على قناعات استئصالية حادة في حق مواطنيهم الأعداء. وبالكاد استطاعوا أن يبلعوا المصالحات التي أجراها في المناطق المختلفة مقابل استسلامها، معتبرين ذلك من حكمته الزائدة و«القلب الكبير للرئيس» الذي أعاد «الإرهابيين» إلى الجيش ليقاتلوا إخوانهم السابقين ويسهموا في استكمال «التحرير» الموعود لمناطق الشمال وسواها مما يجب أن يستعاد. أما في حال إقدام النظام على مصالحة تحمل ملامح الحل الوسط فإنه لا يضمن بشكل مطلق ردة فعل هذه الحاضنة، التي تعدّ نفسها من «أولياء الدم» كذلك بحكم ما قدمته من «شهداء» عسكريين ومدنيين، فهي لا تفرّق، فضلاً عما تعانيه من آثار الفقر واهتراء الخدمات مما لا يمكن الصبر عليه إلى ما لا نهاية مع بلوغ الأوضاع إلى حدود الجوع. ناهيك عن مصالحة مفترضة تتضمن عودة الملايين، من دول الجوار أو من المخيمات ومدن الشمال، ليقاسموهم المتوافر من موارد شحيحة.

لقد كانت مظاهرات المناطق المحررة رفضاً للمصالحة مع الأسد مهمة لجهة أنها دليل حي واسع النطاق على بقاء روح الثورة فاعلة، وخطوة لتأكيد قرارها. غير أن الذعر الذي أطلقها وصاحَبَها مؤشر على درجة مفرطة من سوء التوقع البعيد عن السياسة والسائر في دروب عدمية، وإن كان له ما يفسره في متغيرات السنوات الماضية والتقلب المنهك بين الأمل واليأس، حتى أصبحنا من الذين «يحسَبون كل صيحةٍ عليهم» كما تقول الآية الكاشفة.

المصدر تلفزيون.سوريا


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا