هل ثمة استراتيجية عسكرية تركية جديدة في التعامل مع قسد؟

مع استمرار الحديث عن العملية العسكرية التركية في شمال غرب سوريا واحتدام التكهنات حول موعد البدء بها أو التراجع عنها، يبدو أن ما يجري في الميدان من الناحية الفعلية يوحي بأن ثمة استراتيجية تركية جديدة تحاول تجاوز الأطر والخطط القتالية التقليدية ساعيةً لتحقيق أهدافها دون انتظار الأضواء الخضر من الأطراف الدولية المعنية، سواء أكانت بينها الولايات المتحدة الأميركية أو روسيا اللتان ما تزالان ترفضان أي عملية عسكرية برّية تفضي إلى اجتياح مدن أو بلدات تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد).

لعله من المفيد ذكره أن شركاء أنقرة في محور أستانا، وخلال اللقاء الثلاثي في التاسع عشر من تموز الماضي في طهران، قد أكدوا للرئيس أردوغان رفضهم المطلق لأي عملية عسكرية برية تستهدف قسد، لكنهم في الوقت ذاته أبدوا موافقتهم على أن تقوم تركيا بعمليات جوية انتقائية ومحدودة ضدّ أهداف نوعية لقسد سواء أكانت تلك الأهداف مواقع عسكرية أم شخصيات قيادية، ولعل هذه الموافقة الروسية الإيرانية لم تبتعد عن موقف أميركي مماثل بعدم الاعتراض على استهداف الطيران التركي لمواقع تابعة لقسد في العمق السوري، إلّا أن تفجير إسطنبول وتداعياته على مستوى الرأي العام التركي ربما دفع الحكومة التركية إلى ضرورة اللجوء إلى استراتيجيات جديدة تجنّبها لعبة المناكفات الدولية وانتظار التوافقات، وكان لا بدّ – حينئذٍ – لوزارة الدفاع التركية من أن تبدأ بمقاربات عسكرية غير تقليدية، تتمثل بحرب جوية من حيث الشكل إلّا أن تأثيرها على الأرض قد لا يختلف كثيراً عما تحدثه العملية البرية.

الاستخدام الواسع لسلاح الجو الأميركي في أثناء غزو العراق عام 2003 ولمدة 39 يوماً قبل الاجتياح البري، قدم تجربة جديدة في مهمات القوى الجوية التي تجاوزت التمهيد الناري للمعركة إلى القضاء شبه الكامل على القوات ومقار القيادة والسيطرة وغرف عمليات الجيش العراقي السابق، ويبدو أن نجاح هذا النوع من العمليات العسكرية أسس لاعتمادها لاحقاً من قبل قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في حربها ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) 2014، ويبدو أن الجيش التركي قد استفاد من هذه التجربة وبدأ يعتمدها لأول مرة في تعامله مع حزب العمال الكردستاني (ب ك ك) وفرعه السوري حزب الاتحاد الديمقراطي (قسد) حيث لم يسبق لتركيا أن استخدمت مثل هذا النوع من العمليات ضد هذه التنظيمات لا في سوريا ولا في شمال العراق، وشنت خلال عمليتها التي دخلت أسبوعها الثاني غارات تدميرية أكثر منها تمهيدية، وواسعة أكثر من كونها محدودة، وشاملة أكثر من كونها انتقائية كان لها تأثير كبير جعل قيادات قسد تستنجد بالشرق والغرب وحتى بنظام الأسد المتهالك والمنهار.

ما كان لتركيا أن تفوت الفرصة التي منحتها إياها الولايات المتحدة باستخدام المجال الجوي الذي تسيطر عليه لاستهداف تلك التنظيمات في مناطق شرق الفرات وبعمق 70 كم، وهذا يحدث للمرة الأولى في تاريخ الجيش الأميركي، إذ لم يسبق أن منحت أميركا هذا الإذن لأي جيش آخر من قبل، بالمقابل لم يشأ أن يكون الروس خارج هذا التنافس والاستقطاب فمنحوا للأتراك هوامش أكبر للتعامل مع قسد وقادة حزب العمال الكردستاني في مناطق نفوذها بدليل أنها سمحت للجيش التركي باستهداف المناطق الواقعة تحت نفوذها مثل تل رفعت ومطار منغ العسكري عدة مرات، سجل فيها مرتين على الأقل قتلى من قوات النظام المنتشرة في مواقع متداخلة مع مواقع قسد.

وقبل الحديث عن المقاربة الجوية التركية لا بد من التوضيح من الناحية العسكرية أن العملية الجوية التركية المستمرة لا يمكن اعتبارها تمهيداً نارياً يسبق العملية البرية كما جرت العادة في العمليات القتالية التقليدية، وما ينفي عنها هذه الصفة أن التمهيد الناري الذي يسبق العملية البرية له محددات ومراحل متلاحقة تبدأ بالتأمين ثم التمهيد يليها الدعم وتنتهي بالمرافقة النارية، ويكون بضربات متلاحقة ومتتالية وبغزارة ودقة كبيرة وتشترك فيها جميع صنوف الأسلحة من طيران ومدفعية وضربات صاروخية، يبدأ من أول طلقة ولا ينتهي إلا باقتحام الحد الأمامي المعادي، ومن أهم القرائن الدالة عليه أنه يبدأ بالقصف المركز على الحد الأمامي المعادي وبعمق 5 كم قد يصل حتى عمق 12 كم أحياناً، والقرينة الثانية الدالة على التمهيد الناري أنه يستهدف بشكل أكبر نقاط الاستناد على الحد الأمامي والوسائط النارية للعدو ومقار القيادة والعمليات وعقد الاتصالات وأعشاش الذخيرة والقوى الحية، ولكن ما يحصل من عمليات لسلاح الجو التركي لا ينطبق على تلك القرائن.

إن لعبة الحرب التي يقوم بها الجيش التركي والتي تعتمد بشكل رئيسي على جهد استخباراتي وعملياتي مترافق مع استطلاع متواصل وبتعاون دولي، تعتبر ذات فعالية وفائدة كبيرة من حيث تحقيق أهدافها بالقضاء على الوسائط النارية لتلك التنظيمات في عمق الأراضي السورية، وتدمير مقار القيادة ومقار الاتصال وخطوط الإمداد ومستودعات السلاح وتدمير الأنفاق وغرف العمليات وبالتالي تصبح مقار القيادة وقيادات التنظيم مستهدفة على كامل مساحة الجغرافية السورية ولا تقتصر على مناطق محددة.

إن العمليات العسكرية التي تهدف للسيطرة على مساحات أكبر من الأرض لخلق مساحة أكبر من الأمان لا تستطيع أن تلغي الأعمال التخريبية لتلك التنظيمات الإرهابية داخل الأراضي التركية، بينما من خلال هذه العملية الجوية تسعى قيادة الجيش التركي إلى اصطياد الأدمغة التي تدير تلك التنظيمات وتدبر وتخطط للعمليات التخريبية وبالتالي خلخلتها من الداخل وخلق مساحة أوسع من عدم الاطمئنان والثقة بكل من حولهم تؤدي إلى حالة من التوتر والتخبط في اتخاذ القرارات والإعداد لأي أعمال نوعية تخريبية في الداخل التركي.

من كل ما سبق يمكننا اعتبار أن هذا النوع من العمليات الجوية لا تقل أهمية عن العملية العسكرية البرية، بل يمكن التأكيد على أنها تتفوق عليها، ما يعني أنه قد يكتفي صانع القرار التركي بها.

يبدو أن الأميركان والروس قد سمحوا للأتراك بأكبر وأوسع غارات جوية ممكنة لكن لازال التحفظ قائما على العملية البرية دون أن يعني ذلك ان هذا الخيار أصبح لاغياً، بل يتوقف على نتائج المباحثات التي يجريها الجانبان الأميركي والروسي مع قيادات قسد من أجل الاستجابة لشروط تركيا لكي تعدل عن خيار الهجوم البري، إلا أن المعطيات تشير إلى رفض قسد الرضوخ للشروط التركية والتوجه للتصعيد ما يوحي بتصعيد تركي قد يؤدي إلى حدوث العملية البرية بالفعل.

المصدر تلفزيون.سوريا


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا