التكوين النفسي للتقسيمات مجتمعاتنا مثالاً
مقالات الكاتب

المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت
التاريخ البشري عبارة عن تسجيل دائم لحركة التجمعات البشرية التي تجتهد لتطوير آليات اجتماعها.
وفي كل عصر تبرز آليات مختلفة تدور حول هدف واحد وهو تشكيل تجمع بشري يستحوذ على السلطة
وهو هدف محلي لدى التجمعات ما يلبث أن يتحول لطموح عالمي لذلك تعاقبت الإمبراطوريات والممالك المهيمنة على العالم، ولا يخلو عصر من تربع الأقوياء على عناوين تأريخه.
في عصرنا نجد الآليات السياسية هي أهم سبل بناء التجمعات البشرية لتكوين القوى المستحوذة على السلطات.
كيف يجتمع البشر؟
الاستقطاب.. الانجرار أو الاندفاع.. الانحياز.. التعصب.
هذه المصطلحات متشابهة في دلالتها على التجمع والتحزب.
نعم هي تتشابه في الظاهر ولكن في طياتها اختلاف عميق يساهم فعليا بتقسيم المندرجين فيها بحسب حالتهم السيكولوجية إلى فئات عديدة.
الاستقطاب:
عادة يستهدف أصحاب الأهداف والغايات ولا بد من إقناع هذه الفئة من الناس بالجدوى من انضمامها لأي تجمع.
هذه الفئة تجمعها المصالح ومن أمثلتها الواضحة الأحزاب السياسية المتعددة ضمن التيار الفكري الواحد.
لا يمكن لهذه الفئة أن تنجز أي إنجاز مستدام لأن أهداف الاستقطاب غير ثابتة وبالتالي شخوصه متنقلون في التجمعات التي ترضي غاياتهم.
رموز هذه الفئة غالبا من قادة ومؤسسي الأحزاب والسياسيين والحكام الذين يعتاشون على عاطفة وفطرية الجماهير التي تدور في فلكهم.
الانجرار أو الاندفاع:
هو أقرب ما يكون للأفعال الانعكاسية وردات الفعل فلا تكون هذه الفئة على قدر عميق من الوعي بطبيعتها أو في فترة الانجرار للموقف الذي جمعها.
فيتجمعون بسبب مواقف إيجابية نحو ما ينجرون إليه أو مواقف سلبية تجرهم نحو نقيض ما ينفرون منه.
هذه الفئة تجمعها الحالة العاطفية المرحلية وهي هشة لا تقاوم أول عملية مراجعة نقدية ذاتية يقوم بها الإنسان لذلك لا يمكن أن تبني على هذه الفئة الخطط المستدامة ويستفاد منها في الانتخابات والحروب ويؤثر فيها الإعلام والخطابة والشخصيات الكاريزمية أيما تأثير.
هذه الفئة كبيرة جدا وتتشكل من عامة الناس وخاصتها بنسب متفاوتة فلا أحد ينجو من تأثير العاطفة.
يقول هتلر في تعريف اللغة (هي فن إثارة الجماهير)
الانحياز:
يعتبر الانحياز بمثابة قرار راسخ ناجم عن محاكمة عقلية وعاطفية إيجابية تستند لمبادئ وقيم الشخص المنحاز نحو الفئة التي تشابهه في قراره متجاهلا المقياس النفعي.
الانحياز فعل إرادي دافعه داخلي باطني ومحرضه الحقيقي هو الضمير.
هذه الفئة متينة قوية لأنها تقوم على تجمع عاقل قيمي أو(عقائدي) كما يصطلح أحيانا، وهي كما أسلفنا قائمة على المبادئ الثابتة بعكس فئة المنجرين القائمة على المواقف المتبدلة.
من أهم أمثلة هذه الفئة منفذي الثورات ومنظريها ضد الاستبداد على مر العصور ومنها ثورة العبيد في العصر الروماني.. الصعاليك في العصر الجاهلي العربي.. الثورات الأوربية وأمها الثورة الفرنسية ومنها الثورة البلشفية.. الثورات والحركات المناهضة للتمييز العنصري.. ثورات الربيع العربي في عصرنا الحديث.
ملاحظة هامة يجب أن ننتبه لها قبل المتابعة مفادها أن الفئات المذكورة ليست تصنيفا نخبويا للبشر فمستويات الثقافة في الفئة الثانية تفوق الأولى ولو توهمنا أن الفئة الأولى نخبوية والثانية عوام والثالثة مختلطة.
فقد ذكرنا أن مجمع الأولى هو المصلحة والهدف ومجمع الثانية الموقف والثالثة المبدأ.
التعصب:
هو مصطلح ينفر منه الجميع ولا يكاد يخلو منه أحد، يقوم على عاطفة سلبية جارفة تدفع المتعصب لرفض كل هدف غير أهدافه وكل موقف غير موقفه وكل فكر غير فكره.
تعمدت إبقاء هذه الفئة لآخر مقالتي لأن أصحابها لا يتجمعون كفئة بل هم ينتشرون بين الفئات الثلاث وهم معول هدم الفئات الثلاث.
التعصب الطبيعي يكون في حالات مقبولة جماعية كتعصب زمرة من الطوائف أو الأعراق أو القبائل، ولكن التعصب كلما أهمل علاجه نما بسرعة ونموه يتمثل في تضيق الدائرة التي يتعصب لها حتى يبلغ منه التعصب مبلغا رهيبا وهو التعصب للذات، فتتحول هذه الذات إلى نموذج في القبح والشر.
الإنسان فريد مهما تجمع على التوافقات مع أقرانه وعندما يكون هذا الفريد متعصبا لذاته فلن يكون قادرا على التوافق بقدر الخلاف، فلا بد من الانتباه دائما لهذا النوع من البشر فإما أن يتم علاج مرضهم باللقاءات والمواجهة الصريحة أو تحجيمهم والتحذير من خطرهم صراحة ليراقبوا أنفسهم على أقل فائدة.
سأخلص لأقول صراحة: كل إنسان يحمل نزعة العصبية وأغلبنا يضبطها فلا تخرج بقبحها مثلها مثل الذنوب والعيوب والمعاصي، ولكن عندما لا يراها الإنسان إثما فيحررها ولا يكترث ستنمو وتخرب حياته وقد تخرب حياة الكثيرين من حوله.
المتعصب لذاته حقود مغرور متكبر، المتعصب لذاته جهول مهمل لا مبال، المتعصب لذاته مزاود وعدواني وأناني، المتعصب لذاته يدمر ثورتنا لأنه سمح لهذا القبح أن يقتل مبادئ الثورة داخله ثم هوى بمعوله اللعين على أساساتها الجميلة الطاهرة.
تعليقات