القيح السوري المؤلف من الآلام المصرية واللبنانية والعراقية

المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت
ثمة نوع من التفاؤل يسيطر على ثلاث طبقات من المشتغلين في وعلى المسألة السورية، يذهب للاعتقاد بأن نهاية بؤر الصراع المسلح في مختلف مناطق سوريا، سيفتح المجال واسعا لأن تبزغ ملامح السلام الاجتماعي والسياسي السوري، لأن جميع طبقات ومكونات الشعب السوري قد استنزفت طاقتها أثناء هذه الحرب الأهلية الطويلة، وأن هذه الحرب أثبتت بأن أي طرف سوري لا يستطيع أن يمحق ويلغي الطرف الآخر؛ حتى لو أنتصر عليه عسكريا.
يضم طيف المتفائلين هؤلاء القوى الدولية المنخرطة في المسألة السورية، التي تعتقد بأن أي اتفاق بين النظام السوري وطرف معارض ما، سيحدث تأثيرا جوهريا على الأحوال السورية، وسيُنهي الحرب والاستبداد، وتتحول سوريا معه إلى كيان ديمقراطي. يمتد ذلك ليطال كثير من الدول العربية التي كانت تُناهض النِظام السوري، إذ صارت تتلهف للتواصل وإعادة الوشائج مع السُلطة السورية، معقدة بأن ذلك سيؤمن للنظام المظلة التي يستطيع عبرها أن يتخلى عن الهيمنة الإيرانية.
بنفس المستوى، فإن عددا من تيارات ونخب المعارضة السورية تشعر بأن هذه العملية السياسية ستأتي بما لم يتمكنوا من نيله عبر المُعارضة المُطلقة للنِظام السوري. ومثلهم تعتقد وتستشعر النخب الثقافية السورية الموالية للنظام السوري، التي تعتقد/تتوهم بأن سبب التعقيد السياسي والحرب الأهلية إنما هو رفض العملية السياسية مع النِظام السوري.
إن كل تلك الرؤى تعبر عن ميول إراداوية للجهات التي تتبناها، أكثر مما تشكل قراءة لطبيعة العلاقات والأحوال والخصائص التي صار بها المجتمع السوري، بعد سنوات وكنتيجة للحرب الطويلة. إذ أن الأحوال السورية صارت أشبه ما تكون بقيحٍ ملتهب. فالواقع السوري يكاد أن يكون مشهدا لجمع مسببات استعصاء السلام الاجتماعي والسياسي في مختلف دول المنطقة، مصر لبنان والعراق، والكثير من الدول الأخرى.
ففي سوريا الراهنة انتصرت طبقة الـ5 في المئة على باقي السوريين. فئة الأقوياء هذه، المؤلفة من قادة الجيش والأجهزة الأمنية وكبار التجار والصناعيين، والمتحالفة مع الأقوياء الرمزيين، من فنانين ومثقفين موالين ورجال دين وأبناء العائلات المدينية، التي كانت مُسيطرة على الحياة العامة السورية على الدوام. لكنها في سنوات الحرب أثبتت جبروتها العسكري العنيف، ومتانة وشائجها مع القوى الإقليمية والدولية، وبدا استحالة تغيرها أو مشاركتها غنيمتها المُستحوذة، ملكية الدولة.
هذا التموضع المصري في الواقع السوري الراهن، إنما سيبقى أغلب الظن ويحيى لأجيال كثيرة. فالمنتمون إلى الطبقة الذهبية السورية اقتنعوا بأنهم محكمون بمصير مُشترك، بالرغم من اخلاف مواقعهم وانتماءاتهم وأيديولوجياتهم، لكنهم جميعا مصنفون في خانة الأقوياء، حيث يساهم كل واحد منهم في مساندة وتأمين استقرار موقع الآخر ومكانته الاستثنائية في السلم الاجتماعي الاقتصادي الرمزي السوري، الذي فيما لو تصدع فإن كل هؤلاء سيفقدون ويتساقطون من مواقعهم.
لا يُعقل بأي منطق أن تتخلى هذه الطبقة عن روابطها ومكانتها عبر أي توافق أو عقد سياسي بينها والطبقة التي هُزمت في الحرب أمامهم. وغالبا فإنها ستزيد من نفوذها وفارق القوة الذي يفصلها عن المهزومين، لأن هؤلاء الأخيرين قد صاروا فوق هزيمتهم فاقدين لأي أمل بأن يُحدثوا توازنا ما في سلم القوة السوري.
كذلك ثمة في سوريا اليوم فيض من قادة المليشيات والفصائل والعصابات التي ساهمت في تأسيس هذا النظام السياسي الجديد، وتلك المساهمة يجب أن توفر لهم (قادة الميليشيات) شبكة من الحقوق والمواقع والقطاعات الاحتكارية، وأن يكون لهم الكثير من الحقوق في تحويل رأسمالهم العصاباتي الحربي إلى رساميل مالية وسياسية واجتماعية، وأن يكون النظام العام الجديد متكفلا بسلاسة ذلك التحول، وإلا فأنهم سينتفضون عليه ويحطمونه.
شيء شبيه لما جرى لبنانيا عقب نهاية الحرب الأهلية الطويلة، حينما أعاد قادة الميليشيات والمحاور ترتيب مواقعهم، وتقاسموا سياسيا واقتصاديا وقطاعيا ما كانوا يتصارعون عليه عسكريا، بحيث صار العقد الاجتماعي/السياسي اللبناني قائما ومُصانا حسب روابط التكافل الداخلي المتين بين أبناء هذه الطبقة.
القضية الأكثر إشكالية سوريا في هذا السياق، هي أن قادة الميليشيات السورية هؤلاء يجمعون جملة من الخصائص الاجتماعية والنفسية والطبقية والتعليمية، متدهورة بما لا يُقارن بما كانت عليه "نخب" قادة المليشيات اللبنانية. إذ لا يمكن في هذا السياق مقارنة أبو محمد الجولاني بنبيه بري مثلا، ولا "أبو علي سجو" بوليد جنبلاط، وطبعا ليس من العدل مساواة سهيل الحسن ببشير الجميّل...إلخ.
بهذا المعنى، فإن الأحوال السورية، فيما لو انقلبت في لحظة ما، وتحولت مما هي عليه من حرب، لتكون صراعا باردا بين هذه الأطراف، وحسب تلك الشروط والخصائص والسياقات الموضوعية، فإنها لن تكون أقل فظاعة وإطاحة بحقوق ومكانة ودور السواد الأعظم من السوريين. شيء أكثر تدهورا مما هي عليه الحياة العامة اللبنانية راهنا، حيث الدولة هي صيغة ومنصة لتقاسم مغانم وقوة الدولة بين قادة الطوائف، الذين كانوا حتى يوم قريب قادة محاور.
في سوريا اليوم أيضا عنف لا يمكن تصريفه وتجاوزه وغفرانه بأي توافق سياسي، هذا فيما لو حدث هذا الأخير أصلا. العنف السوري الذي يتوزع كنظيره العراقي على عدة مستويات: عنف في الذاكرة، حاضر ومرير، يعتصر خلجات الملايين من ذوي مئات الآلاف من الضحايا، الذين سقطوا دون أن يكون لهم ذنب سوى أنهم ينتمون لتلك الطائفة أو القومية أو الجماعة. ذوو الضحايا الذين يرتبون وعيهم عادة بنمط من التضاد مع جماعة وطائفة التي يعتقدون بأنها أطاحت بذويهم، واعتبارهم العدو المطلق والدائم.
كذلك في سوريا اليوم العنف الحاضر، مئات الآلاف من الجرحى والمعوقين والذين دُمرت بيتهم وحيواتهم البسيطة ومصادر رزقهم، هؤلاء أيضا لن يقل انفعالهم المضاد للجماعة والطائفة والقومية التي يعتبرون أبناءها سببا في مأساتهم اليومية.
في سوريا اليوم قيح يتجاوز آمال وخِطابات المُتفائلين، ويتجاوز التفكير الساذج بإمكانية عودة سوريا كدولة مركزية موحدة يحكمها شخص أو حزب ما عبر انتخابات ودستور عام، هذا الشيء الذي كان شبه مُستحيل في ذروة أيام سليمة الثورة السورية، فكيف به بعد كُل هذه الجبال من الآلام وهذه البحور من الدماء!
تعليقات