المثالب في تبني وصفات الثعالب (2)

المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت
تنحنح العم اسطفان في جلسته، وشدّ قليلاً ربطة عنقه، ثم تناول لفافة تبغ من علبة أمامه مكتوب عليها "الحمراء"، وأشعلها مستنشقناً بعمق، ورمقنا بنظرة لم نفهم معناها حتى استأنف حديثه قائلاً: "أما التنويريون يا سادة، فلهم في سوء الطباع عادة، وهم منقسمون على فرق وملل ونحل، وإن بانوا للناظر كشلّة، فالحقيقة أن فيهم علّة، كون بضاعتهم مستوردة، ومن أطباق الشرق والغرب والشمال والجنوبمركبة؛ خلطات حمراء، على توابل صفراء، على بهارات سوداء، كلها مستجلبة، وبعجالة محضرة، أربكت المريدين، ونفرت أصحاب الذوق السليم؛
فرقتهم الأولى استقدمت من بلاد "الصحراء المتجمدة" معلبات حمراء مثيرة، فاتحةٌ للشهية ووفيرة، من وكالتها الحصرية لصاحبها "العم فلاديمير المتين"، صديق الفقراء وحبيب المعدمين؛ وكانت هذه الوجبات الجاهزة في حينها رائجة، في الأسواق مرغوبة، وعلى الدوام مطلوبة؛ اختصت بتقديمها حانات أخاذة بألوانها النفاذة، روّادها تجاوزوا الإخلاص لها إلى الإدمان عليها، فتقاطروا من كل الأمصار ليَردِوا إليها، رافعين شعار "اليوم اليوم وليس غداً، كؤوس الفودكا فلتقرع..."؛
ولكن للأسف! فإن "العم فلاديمير" ودون سابق إنذارٍ أفلس، ولم تعد منتجاته سائغة، فقد تراجع في السوق عليها الطلب، والجميع عنها امتنع؛ عندها دخل الوكلاء الحصريون للمعلبات الحمراء في حيص بيص، وحاموا وداروا وطرقوا الأبواب سائلين، ما العمل؟!
بعضهم نادى بتغيير النهج، وآخرٌ قال بتغيير المَثل، فيما غالبيتهم قامت تبحث عن وصفة تعيد لمطبخهم الأمل!
أما ملّة المتنورين الثانية، فاستوردت أطباقاً لها رواج في بلاد تسمى "وادي المتفرعنين"، لصاحبها المرحوم "الجميل الناصر للأنصار والمستنصرين"، الأمين العام لتنظيم "المطبخ الأوحد"، وصاحب نظرية: "الفول والطعمية والمهلبية – المنهج الأمثل لحياة هنيّة"؛ والحقيقة أن تلك الأطباق كانت يومها وجبةً دسمة، مُعَربّة ومُستَعرَبةً، لها نكهة للبّ سالبة، وللشهية جاذبة، فانتشرت مطاعمهم في طول البلاد وعرضها، وتقاطر الناس للاستمتاع بمذاقها، وعقدت الحلقات والندوات والمؤتمرات للتسويق لفوائدها، وتفنن طباخوها بأساليب تقديمها وعرضها، وكتبوا عنها المعلقات والكتب والأبحاث؛ بعضهم أكد أنه لا مجال لهضم "الطعمية" إلا بعد أن تنتشي الزبائن بطعم "الفول"، ومن ثم تنتقل عبر مراحل التطور الاجتماعي لتقبّل "المهلبية"؛ أما البعض الآخر فأكد على تلازم "الطعمية" و "المهلبية" حتى يمكن الاستمتاع بمنافع "الفول"، فيما ذهبت فرقة منهم للقول إنه لا طعم "للفول" دون "الطعمية"، ولا مناص من الاثنين لتحقيق حلم "المهلبية"؛
لكن الأيام أيضاً على هؤلاء دارت، والأحوال ضدهم انقلبت، فأضحت وجباتهم سلعة كاسدة، في مطابخهم راكدة، وما عادت العامة تستطيب طعامهم، ولا الخاصة تستحب كلامهم، بعد أن انكشف زيف ادعائهم، وأن نكهة كل أطباقهم واحدة، مرّة علقيمة، والأدهى أنهى باردة؛ عندها دخل طهاة "الفول والطعمية والمهلبية" في حيص بيص، وحاموا وداروا وطرقوا الأبواب سائلين، ما العمل؟!
بعضهم نادى بتغيير النهج، وآخرٌ قال بتغيير المَثل، فيما غالبيتهم قامت تبحث عن وصفة تعيد لمطبخهم الأمل!
وفيما كان التنويريون على وجوههم هيام، ناذرين الصيام، إن أُخذ بيدهم، أو وجدوا ضالتهم، هبط على أحدهم الإلهام، وخرج يردد في الزحام، وجدتها! وجدتها! ...
فاجتمع الطباخون والطهاة من التنويريين حوله، وعلى وجوههم علامة استفهام كبيرة، وعيونهم في نظرة السذاجة أسيرة؛ فبادرهم بالقول: "إن الحل يا رفاق، يكمن في تغيير الحلاس مع تثبيت الأنفاس؛ فما علينا سوى أن نضيف التبهيرة الغربيّة الشهيرة، والتي يقال بأنها سرية مرية، لا بل إمكاناتها عجائبية إن لم تكن سحرية؛ وهذه الوصفة يا سادة هي خلطة مجربة، عند الأمم والأقوام المعتبرة، ولا يكاد يخلو منها طبق؛ فهي مطورة، ومحدثة، ومدوزنة، وبطريقة جذابة "معلبة"؛ قيل إنها تنفخ الأوداج، وتطيل الأعمار، يستطاب مذاقها، ويستحب تعاطيها، حتى أن بعض النوارنيين قد أفتى بواجب تبنيها! فسأله الجميع وما هي؛ فأجابهم، تدعى "الديمقراطية"....".
رقص التنويريون ليلتهم تلك، وفرحوا وهللوا لإيجادهم الحل، واستشرفوا أكسير الخلاص، فأبقوا على طعامهم خالي النكهة والفائدة والدسم، وغيّروا الاسم التجاري ليتضمن الكلمة السحرية، حبيبة الجماهير "الديمقراطية"....
-يتبع-
تعليقات