سوريا وودستوك المنطقة

المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت
في مطولاتهم المملة من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة طوال الأيام الماضية، لم تختلف خطابات رؤساء وزعماء دول منطقة الشرق الأوسط عما تناوله وزير الخارجية السوري وليد المعلم خلال كلمته، خصوصا في مضامينها الجوهرية وآليات بناء منطقها وحججها وصياغاتها الرمزية، وإن من موقع وخيارات سياسية وإيديولوجية مختلفة، وربما متخاصمة ومتحاربة. لكن اختلاف مواقع وخيارات هؤلاء الزعماء وسياسات كياناتهم يبدو شيئا هامشيا أمام تطابق المضامين والديناميكيات المنطقية الداخلية لتلك الخطابات.
مجموع المتحدثين، من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى نظيره الإيراني حسن روحاني، مرورا بنظرائهم المصري واللبناني ومسؤولو دول الخليج، وبالرُغم من تناقضات وصراعات كياناتهم، توافقوا فيما بينهم وطابقوا المُعلم في خطابه. تلك المطابقة الخطابية التي تدل عميقا على مدى ما صارت عليه أنظمتهم وأنماط حُكمهم من واحدية، التي ترسم مسار التاريخ في منطقتنا.
كلمة المعلم النموذجية، قامت على هرم ثلاثي الأبعاد: فخطابه السياسي تمكن من قول كل شيء عن أي شيء، عن الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان والعلاقات العالمية المختلة، وكان يتملك الجرأة لتناول بعض أوجه المسألة الجندرية وأزمة البيئة الكونية. كل ذلك الكلام "السماوي" في وقت تفتك أجهزة نظامه السياسي الحاكم في سوريا، الأمنية والعسكرية والميليشيوية، تفتك بملايين الأناس المدنيين، تخوض حربا ماحقة على أمة المواطنين من أبناء بلدها، تنفذ موجات الإبادة الدائمة لعشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين في غابة زنازينه، تقصف مدنا بالأسلحة الكيماوية وتقتلع ملايين البشر من مدنهم وتدمر حيواتهم.
هذه الفظاعة في البون الشاسع بين الخطابية والوقائع، ما كانت يوما في منطقتنا مثلما هي اليوم. أردوغان يبكي في خطابه على حقوق الفلسطينيين، بينما لو اتسعت زنازينه لأعتقل الشعب الكردي في تركيا بكامله، ولأحتل ما يملكه الكرد من أراض وحقوق، حتى ولو في الأرجنتين، مثلما قال رئيس الوزراء التركي الأسبق يوما بولند أجاويد. روحاني الذي أطنب في كلمته في الحديث عن العدالة العالمية، يحرم نظامه السياسي ملايين الإيرانيين من أدنى وأبسط شروط الحياة الكريمة. ومن مثلهما كانت باقي خطابات المتحدثين.
المعطى الثاني في خطابات مجموع المتحدثين تعلقت بملف الإرهاب، فقد أجمعوا على أن كياناتهم ومؤسساتهم ونُظمهم الأمنية والعسكرية أنما تخوض حربا شاملة، نيابة عن العالم أجمع، في محاربة الإرهاب، وأن ذلك يكاد أن يكون فعلها الأول والدائم في صفحة التاريخ هذه.
كانت خطابات محاربة الإرهاب في مجموع الكلمات، وبالذات في كلمة المعلم تسعى لتحقيق ثلاثة أهداف، فهي أولا كانت بمثابة طلب لصك البراءة والتحالف مع القوى الدولية، والقول إن ما يجمع هذه الكيانات والأنظمة الشرق أوسطية مع هذه القوى الدولية في ملف محاربة الإرهاب، إنما يجب أن يغطي ملف محاربة الإرهاب ويغالب باقي الخلافات السياسية والتفاصيل الأيديولوجية بينهما. كذلك فإن هذه الخطابية عن محاربة الإرهاب كانت تتقصد التغطية عن كل ما تمارسه، ويمكن أن تحاسب وتعاقب عليه، هذه الكيانات والأنظمة. أخيرا فإن خطاب محاربة الإرهاب عبر تلك الكلمات المُلقاة، إنما كانت إعلانا عموميا عن نهاية المجتمعات في دولنا، بقيمها ونزعاتها وتراكماتها ومنجزاتها وتنميتها البشرية وتطور سياقها التاريخي، والإيحاء بأنها مجرد كتل بشرية شديدة الخطورة، لا يناسبها إلا الأنظمة شديدة الشكيمة والقسوة، لضبطها وكبح مكامن خطورتها.
الأحداث السورية، وفظاعة أحوال النظام وسكوت العالم عنه، كانت العتبة التأسيسية التي شُيدت عليها هذه العمارة الخطابية والمنطقية، التي صارت بمثابة سلطة المعنى الأعلى لفهم أحوال منطقتنا.
المدخل الثالث في خطاب المعلم، تعلق بما يمكن تسميته بـ "الحرب الشاملة"، أي لا مساومات وتوافقات وحلول جزئية وتنازلات متبادلة، وأولا لا أبواب وطرق جديدة للحياة المشتركة بشروط أكثر يسرا للحياة المشتركة وشروط الاستقرار السياسي والتنمية البشرية، بالذات لصالح القواعد الاجتماعية الأوسع والأكثر دفعا لثمن هذه الصراعات. فالخطابات كلها صفرية تماما، بالضبط كما هي الخيارات السياسية لأنظمة هذه الدول الحاكمة. لا أحد يملك قابلية الرضا بـ"نصف التفاحة". لا العربية السعودية من القضية اليمنية، ولا تركيا بالمسألة الكردية، ولا إيران بمن تحكه من دول ومناطق نفوذ، ولا النظامان السوري والمصري بمجتمعاتهم الداخلية. فالكل متيقن بقدرته على الاستيلاء على شيء، والعنف هو الأداة الأكثر مناسبة لتحقيق ذلك.
الأسدية الحاكمة لسوريا منذ نصف قرن كانت تسعى لأن تحول العنف الأرعن إلى درس شديد العبرة لمواطنيها المحليين. لكن "النجاح" الباهر الذي حققته عبر سنوات حربها الطويلة، حينما تمكن نظام سياسي كثير التواضع، قدرة وذكاء وطاقة وشعبية، استطاع أن يمحق شعبا كاملا، بكل بساطة سلاسة وقبول، فغدا نموذجا مثاليا، بالذات لتلك الأنظمة الشرق أوسطية التي كانت ما تزال تطمح لأن تكون أسدية محدثة ومناسبة ضمن نماذجها المحلية، لكنها كانت تملك الكثير من الحساسية و"الخجل" لأن تُصرح بذلك، فجاء الحدث السوري ورفع عنها ذلك الحياء.
كانت موسيقى "Rock and Roll" منتشرة في مستويات مختلفة ومتواضعة في الثقافة النخبوية والشعبية الأميركية والأوروبية طوال عقدي الخمسينات والستينات من القرن المنصرم، إلى أن نُظمت حفلة الـ"وودستوك" الشهيرة في منطقة قريبة من مدينة نيويورك الأميركية في أواخر الستينات من القرن المنصرم، وتحولت بسبب استثنائية الفنانين ومئات الآلاف من الذين حضروا فعاليتها في ذلك الحين، تحولت إلى ذاكرة ومشهد تأسيسي لوجدان وخيارات عشاق تلك الموسيقى عبر عموم العالم، ومن تلاهم من الأجيال العاشقة لتك الموسيقى.
سوريا، بأحداثها الأليمة وتناقضاتها الرهيبة وقسوتها العدمية، وأولا بقدرتها على اجتراح الجبروت والـ "صمود" لنظام سياسي بالغ الوضاعة والضعف، إنما شكلت نموذجا تأسيسيا ومغريا للدول والأنظمة الشمولية في منطقتنا، وما أكثرها.
ثمة تفصيل صغير لا بد من الإشارة إليه، التطابق بين بين المثال السوري وما حدث في حفلة الـ"وودستوك" إنما جرى في مستوى القدرة على تشييد نموذج مُغر لمن يُحيط به، وليس على مستوى القيم والخيارات الأخلاقية. فحفلة الـ "وودستوك" كانت مثالا لانتشار قيم التعايش وحرية الفرد وقدرة البشر على الفرح الجماعي بأوسع قاعدة من الحاضرين، بينما كان النظام السوري، وما زال وسيبقى، عكس ذلك تماما، وفي كل تفصيل.
تعليقات