ما لم تنطق به صور سيزار

المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت
تم عرض الوجع السوري في أحد أروقة الأمم المتحدة بمعرضٍ تباكى فيه جميع مَن حضر وكفكفوا دموعهم وشجبوا الوحشية وانتهى الأمر. ولم تعكس أكثر من 50 ألف صورة لجثث شهداء سوريين-قضوا تحت التعذيب في معتقلات النظام تم تسريبها عبر منشق عن الشرطة العسكرية السورية المعروف بـ“سيزار"-أي تغيرٍ في النهج الدولي والإقليمي حيال الملف السوري، ولم يتعدَ أثر تلك الصور المستوى الإنساني ولم يطل الأقنية السياسية الفاعلة، وهذا ديدن هكذا ملفات في مؤسسات المجتمع الدولي.
الجدير بتسليط الضوء عليه في هذا الصدد أمام هول ما تم حيال شهداء الكلمة والموقف والاتجاه، هو أن الطعنات الموجهة لأجسادهم العارية إنما تستهدف بالدرجة الأولى تصدير صور مستقبلنا في سورية الغد وفق أذهان السلطة الحاكمة وحدود إنسانيتنا التي يرسمونها بسياط حقدٍ على ياسمين أجساد المعتقلين، وأن تلك الحدود لن تتجاوز كسيرات خبز منفوخة بادعاءات الصمود والتحدي والسيادة و....إلخ، وتكرس في أذهان ووعي الجيل الناشئ مفردات الذل والهوان وتشربه دروس الطاعة والانصياع، خاصة عندما تدرك هذه الأجيال أن ما تم كان على مرآى العالم بكل فعالياته الإنسانية والقانونية والسياسية ولم يتم الدفع بأية خطوة تجاه المحاسبة ولو بحسم العلاقة مع الجلاد، بل على العكس كانت رسائل اللامبالاة السياسية لهذا الحدث تعمم قاعدة جديدة متجددة في العلاقات الدولية أن المهم في العلاقة التحالفية مع الأنظمة السياسية هو عدم معارضة المصالح وعدم تهديد الأمن القومي، وأما الضحايا البشرية فهي لن تتعدى إطار كونها مادة إعلامية تفيدهم في خطبهم الانتخابية في تأكيد اتساقهم مع القيم المثلى والفكر الحضاري.
المؤلم حد الذبح تلك الطريقة التي تم التعامل فيها مع الضحايا واتباع نهج المسابقات والدعايات من قِبل جلّ الفعاليات الإعلامية بتبريرات الاحتكار والسبق الإعلامي، فكل ما تحتاجه فقط هو الدخول على الموقع الإلكتروني والتدقيق بين الصور لاكتشاف شهيد عائلتك، ويوضع المرء أثناء تدقيقه بالصور وانتقاله بين صورة شهيد وآخر بين ثنائية ( هو، ليس هو)، تلك الطريقة قتلت الشهداء آلاف المرات ولعل الأقسى فوق ذلك هو تشييع هؤلاء الشهداء بصمت مطبق وبدون استلام جثثهم وخاصة في مناطق سيطرة النظام، الذي وجد في تلك الطرق وغيرها مدخلاً ضرورياً يؤسس لمرحلة عدم المطالبة بالمعتقلين وينفس الضغط الممارس عليه، كما أنها أخرجته من حرج عدم معرفته بمصير معتقليه خاصة في ظل استقلال معظم الأجهزة الأمنية وغياب التنسيق والتواصل فيما بينها.
وفق ما حدث، وفي ظل استمرار عجز معظم مؤسسات المعارضة الرسمية وغير الرسمية على التنطع بمهمة الدفاع عن قضية المجتمع السوري، أكثر القضايا الإنسانية المحقة بالتاريخ، لا بدّ من إيلاء أهمية قصوى لضرورة التغيير في افتراضات العمل السياسي والدبلوماسي الذي ثبت عدم فعاليته، فلم يُقم بما يلزم لتأليب الرأي العام العالمي، ولم تُنفذ أجندة واضحة تستهدف إيصال هذه الجرائم لأهم الفعاليات الاجتماعية والسياسية والدبلوماسية والإعلامية بغية تصدير صورة سلطة لا يمكن لها أن تكون عنصر اً في معادلات السلم الأهلي المبتغى والذي يتم دفعُ كل القنوات باتجاهه عبر بوابات الحل السياسي.
لعل أهم ما لم تنطق به صور "سيزار" هو أمران يتصلان بمفهوم الوجع وأسباب مقاومة مصدره، الأول هو مدن سورية التي بكت أبنائها المخلصين دماً في آناء الليل، والمغيبين منذ سنين في ظلمات الحجز والقهر، ولم يرافقها بمراسم الحزن سوى كظمُ غيظٍ سيحمي حضارة هذه المدن من عنجهية وبربرة الرد العنفي العبثي المتوقع والتي ستمارسه السلطة حيال حجرها وبشرها، وسيولد لمن يقرأ مراسم التشييع الصامت غير المكتملة الأركان أسباب امتلاك مبررات الانفجار وسبل البحث الدائم عن التغيير المنشود، أما الثاني فيتمثل بأن صور شهداء الاعتقال قد دفعت معظم الناشطين الثوريين إلى عدم التسليم بالمعادلات السياسية الإقليمية والدولية التي تنذر بقتامةٍ وتأزمٍ مديد سيكتنف جسد الجغرافيا السورية على كافة الصعد، وعدم الاستكانة لمؤسسات السياسة وفصائل العسكر التي لا تزال تنتهج مسلك الفرقة والتعارض والفردانية، والتوجه نحو صنع الفرص التي تعيد الحراك المجتمعي نحو غاياته وقيمه الحضارية وذلك ضمن النسق السوري، ودللت صيحاتهم ونشاطاتهم عن غضب كامن، لا يمكن أن يستقر دون الوصول لمجتمع الكرامة والإنسان، وتعبر عن رفض مديد وعميق لسلطة القمع والإلغاء بكل أشكالها وانتماءاتها السياسية سواءً كانت محلية أو دولية.
وتؤكد الأوجاع السورية المتنامية إلى أن سجل المستقبل لن يكون إلا سفر مجدٍ لشهداء قتلوا آلاف المرات وشهداء أحياء لا يزالوا يقتلون في اليوم الواحد آلاف المرات، وأن طريق الثورة هو أصدق وأحق من طرق الاستكانة والصمت.