دلالات اعتراف أمريكا بهزيمتها في أفغانستان

المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت
يمكن القول بأن الولايات المتحدة الأمريكية وبعد سبعة عشر عاما من احتلالها لأفغانستان عام 2001 بدأت تعترف بهزيمتها في حربها ضد الشعب الأفغاني، فتصريح وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس في كابل قبل أيام، هو اعتراف ضمني بالهزيمة، وإن استعمل كلمات النصر للتغطية على الهزيمة النكراء، فهو يعتقد أن: «النصر في أفغانستان، ما يزال ممكناً، ليس بالضرورة أن يكون على الأرض، لكن من خلال تسهيل عملية مصالحة حركة طالبان مع الحكومة الأفغانية».
هذا التصريح يتضمن اعترافا ضمنياً بأن النصر على الأرض لم يعد ممكناً، وأن الطريق الوحيد الذي تريد أمريكا فيه كسب الحرب في أفغانستان هو بالتفاوض بين حركة طالبان والحكومة الأفغانية، التي تمثل الاحتلال الأمريكي فيها، لأن التفاوض في النهاية سيكون بين حركة طالبان والحكومة الأمريكية، فما لم توافق عليه أمريكا لن يكون من حق الحكومة الأفغانية أن توافق عليه إطلاقاً.
ولا شك في أن وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) هي صاحبة القرار الحقيقي في الولايات المتحدة الأمريكية في التوصل لهذا القرار، وأنها اضطرت إلى إعلان الهزيمة باسم النصر، عبر المفاوضات مع حركة طالبان لأسباب كثيرة، منها أن حركة طالبان قد فتحت قنوات اتصال وتعاون سياسي وعسكري متزايد ومتطور مع روسيا والصين، ونجحت في بناء قوتها السياسية والعسكرية على المستوى الداخلي والخارجي معاً، ونجاح هذا التعاون مع روسيا والصين أكثر، سيؤدي في النهاية إلى نهاية النفوذ الأمريكي في أفغانستان، وبالتالي فإن أمريكا مضطرة إلى مد يدها إلى حركة طالبان لتلبية مطالبها، ومحاولة قطع أو إضعاف علاقتها مع روسيا والصين، بما يحفظ ماء وجه الاحتلال الأمريكي لأفغانستان لأكثر من سبعة عشر عاماً، فأمريكا تفضل عودة حركة طالبان إلى الحكم عن طريق مفاوضات معها، بدل أن تكون رغما عنها. والدلالة الأخرى المهمة لاضطرار أمريكا إعلان هزيمتها المغلفة بالنصر في أفغانستان، هو أن حركة طالبان أكثر تمثيلا للشعب الأفغاني من الحكومة الأفغانية، المتعاونة مع الاحتلال الأمريكي، فروسيا والصين لم تجدد علاقاتها مع حركة طالبان، لأنها منظمة عسكرية مقاومة للاحتلال الأمريكي وامتدادته في أفغانستان فقط، وإنما لإدراكهما أن أمريكا ارتكبت خطأ استراتيجيا باحتلالها لأفغانستان عام 2001، فبقاء حركة طالبان مسيطرة على معظم أراضي ومحافظات أفغانستان، دليل على أن امتدادها وسيطرتها السياسية والقضائية والعسكرية في أفغانستان نابعة من وجودها الطبيعي بين الشعب الأفغاني، فحركة طالبان في نظرهم هي التي حسمت الصراع الداخلي بعد هزيمة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان عام 1987، وتمكنت بقدراتها الشعبية والاجتماعية والسياسية والعسكرية، من تشكيل حكومتها ودولتها، قبل أن تنقض عليها أمريكا بالاحتلال الجائر عام 2001،وحيث أن تصريح وزير الدفاع الأمريكي جاء من داخل العاصمة الأفغانية كابل، في زيارة غير معلنة، صباح يوم الثلاثاء 13 مارس 2018، فإن لذلك دلالة أخرى أيضاً، وهي أن أمريكا تفتح صفحة اعتذار أو مصالحة مع الشعب الأفغاني، وتريد أن تصل هذه الرسالة إلى أسماع الشعب الأفغاني مباشرة، والدلالة المهمة أن تأتي هذه التصريحات من وزير الدفاع الأمريكي نفسه، وليس من وزير الخارجية الأمريكي مثلاً.
فوزارة الدفاع الأمريكية هي صاحبة القرار في الحل السياسي المقبل في أفغانستان، قبل البيت الأبيض وقبل وزارة الخارجية الأمريكية، وهذا سوف يطمئن حركة طالبان والشعب الأفغاني، بأن هناك جدية في الموقف الأمريكي ـ غير الجديدة ـ بمحاولة فتح قنوات مع حركة طالبان، ولكن الدلالة الأخرى قد لا تعطي الشعب الأفغاني أماناً من المساعي الأمريكية، وإن تضمنت نوعاً من الاعتراف بالهزيمة فيها. فقد يشعر الشعب الأفغاني وحركة طالبان بنوع من المناورة الأمريكية لتهدئة الساحة الأفغانية أمنياً وعسكرياً، حتى تتفرغ أمريكا للمواجهة المتعاظمة احتمالاتها مع إيران وروسيا نفسها، وبالأخص في سوريا، ولعل تغيير وزير الخارجية الأمريكية تيلرسون قبل أيام يأتي في هذا السياق، فوزير الخارجية الأمريكية الجديد من هواة الحروب، كما يقال، وضد الاتفاق النووي مع إيران، وضد توسيع إيران نفوذها في منطقة الشرق الأوسط، فأمريكا لا تريد أن تخسر جهودها السياسية والعسكرية والأمنية في سوريا لصالح روسيا ولا إيران، وإن كانت لا تمانع في أن يبقى الوجود الروسي محدوداً، وأن يكون الوجود الإيراني في أقل درجاته أيضاً، ولذلك خضعت الإدارة الأمريكية للضغوط التركية في عفرين ومنبج وغرب الفرات، وسعت للتعاون مع تركيا في ضبط الشمال السوري، الذي يهدد الأمن القومي التركي، فأمريكا لم تستطع تجاهل المخاوف التركية، وفضّلت أن تتعاون معها بما لا يفتح صراعاً معها في سوريا أيضاً، وهذا قد يوجد لدى قيادة طالبان مخاوف حقيقية، من أن الدعوة الأمريكية للتفاوض معها هي مجرد مناورة تنتهي بانتهاء زمن الحاجة إليها.
هذه الدلالات متفاوتة في درجة أهميتها، ولكن أهمها هو الدلالة التي تؤكد ارتكاب أمريكا لخطأ استراتيجي كبير باحتلالها لأفغانستان، وما يفاقم جسامة الخطأ الأمريكي أن أمريكا لم تتعلم من الاحتلال البريطاني السابق لأفغانستان وهزيمتها القديمة هناك، كما لم تتعلم من الخطأ السوفييتي باحتلال أفغانستان عام 1979، وخسارة الاتحاد السوفييتي لقدرات كبيرة من جيشه واقتصاده وهزيمته العسكرية في النهاية، بل وانهيار الاتحاد السوفييتي من جراء ذلك وغيره، فأمريكا وإدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن ارتكبت خطأ جسيماً باحتلال أفغانستان، لأنها ظنت أن قدرتها العسكرية الهائلة كفيلة أن تضمن لها النصر في الحرب على شعب ضعيف عسكرياً، وهذا بسبب جهلها بالشعب الأفغاني المسلم، فالشعوب المسلمة لا تستسلم أمام جيوش الاحتلال، وإن لم تستطع منعها من الاحتلال لزمن معين، فدول الاحتلال لبلاد المسلمين ستبقى تدفع ثمن الاحتلال حتى الهزيمة النهائية ولو بعد سنين أو عقود وقرون.
إن أمريكا أمام هذه التجربة الفاشلة باحتلال أفغانستان، وأمام تجربة فاشلة باحتلال العراق، وأمام تجربة فاشلة اليوم باحتلال أجزاء من سوريا، وهزيمتها في أفغانستان والعراق لن تتوقف على خسارة التريليونات من الدولارات التي يتندر الرئيس الأمريكي ترامب عليها، وإنما سوف تجعل أمريكا تخسر مكانة الدولة الأولى في العالم، وقد نجحت في ذلك، وسوف تدفعها أو تضطرها إلى إغلاق حدودها على نفسها، كما فعلت في الماضي، فالخطأ الأكبر الذي ترتكبه الدول الكبرى المتهورة هو ظلمها للدول الصغيرة، وأكثر ما تخدع به أن تجد متعاونين معها من أبناء تلك الدول، ولكنهم لا يستطيعون نصرها ولا نصر أنفسهم أيضاً، وهذا يعني أن على أمريكا أن تفتح صفحة جديدة من المصالحة مع الشعوب المسلمة وليس مع الزعامات السياسية المفلسة فقط، فالشعوب هي التي تقرر مصيرها في النهاية، والشعب السوري سوف يصل إلى أهدافه ولو بعد حين، فليس من الصواب أن تستغل أمريكا ضعف الشعب السوري اليوم وتشرده لتبني أحلامها الاستعمارية الوهمية.
تعليقات