استعارة نماذج الحكم وتصديرها

في عام 1991، ومع تفكّك الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية، حاولت دول عربية عديدة، خصوصا منها التي كانت ترتبط بعلاقات قوية مع الاتحاد السوفييتي، أو تتخذه نموذجًا في الحكم والإدارة، أن توائم نفسها مع المتغيرات التي هزّت بنية النظام الدولي، وأخذت تؤثر في البيئات الداخلية لهذه الدول. كان يُفترض أن تنتهي، بنهاية هذه المرحلة، أنظمة الحزب الواحد التي نشأت كمثيلاتها في أوروبا الشرقية من رحم استقطابات الحرب الباردة، وأن تتحوّل الدول العربية بالمثل نحو الديمقراطية. ولكن هذا لم يحصل، إذ سارعت دول عربية مختلفة إلى التأقلم مع هذه المتغيرات، عبر الانتقال نحو اقتصاد أكثر ليبراليةً تتوفر فيه هوامش حرية أكبر في مجال الاستثمار والعمل والمبادرة الاقتصادية، ليشكل ذلك بديلا عن الانفتاح السياسي، ويحدّ من المطالبات به، بدل أن يواكبه كمسار متكامل نحو التغيير الآمن. بعبارة أخرى، تخلّت هذه الدول بسرعة عن النموذج السوفييتي المنهار، وتحولت إلى تمثل النموذج الصيني الصاعد.
كانت الصين قد بدأت تلفت الانتباه إليها في مطلع التسعينيات، عندما بدأت الإصلاحات التي أدخلها دينغ سياو بنغ في أواخر السبعينيات تؤتي ثمارها. كان سياو بنغ الذي جاء على رأس الحزب الشيوعي الصيني، ليُصلح ما أفسدته ثلاثة عقود من سياسات ماو تسي تونغ الكارثية، قرّر أن يبدأ انفتاحا اقتصاديا كبيرا منذ عام 1978، هدفه نقل الصين من دولةٍ زراعيةٍ فقيرة إلى دولةٍ صناعيةٍ غنية عبر إصلاحات عميقة، حولت الصين عمليا إلى اقتصاد رأسمالي، لكنها أبقت السلطة بيد الحزب الشيوعي في عملية تزاوج فريدة بين التعدّدية الاقتصادية والملكية الفردية من جهة، والمركزية السياسية وحكم الحزب الواحد من جهة أخرى. أثارت هذه التجربة اهتماما كبيرا في المنطقة العربية، وبدأت محاولات تمثلها بوضوح شديد، في سورية تحديدا.
وكما في محاولة محاكاة النموذج السوفييتي، خلال فترة الحرب الباردة، تجاهلت عملية نقل التجربة الصينية ظروفها وخصائصها التي تتفرد بها، (“الروح الآسيوية”، مثلاً، كما يسميها فريد زكريا، المستمدة من الثقافة الصينية وتقوم على ثنائية الطاعة والعمل) وهي وإن نجحت في ماليزيا مع مهاتير محمد في السنوات المبكرة من فترة حكمه الأولى (1983 – 2002) فإنها لم تنجح في أماكن أخرى. وبالفعل، أدّت اللبرلة الاقتصادية التي تبنتها دول عربية عديدة إلى تخلي نظم الحكم فيها عن قاعدة دعمها الاجتماعي، والتي تمثلت بأبناء الأرياف والطبقات الوسطى أساسا. وكانت هذه هي الفئات التي حملت، في الأصل، نظام يوليو في مصر ونظامي البعث في سورية (والعراق) إلى السلطة، وأبقتهم فيها عقودا مديدة، وهي الفئات نفسها التي ثارت عام 2011، محاولة إخراجهم منها بعد أن هجرتها النظم الذي ادّعت تمثيلها وانحازت إلى طبقة رجال الأعمال الجدد.
واقع الحال أن النخب السياسية العربية الحاكمة كانت مستعدّة لاستيراد كل تجارب العالم، من النموذج الصيني إلى الماليزي، لا بل ذهب بعضهم إلى الحديث، حتى عن إمكانية تمثل نماذج أميركا اللاتينية، من أجل أن تعفي نفسها من مقتضيات التحول الديمقراطي.
عقودا طويلة، سعت الدول العربية والنظم التي حكمتها، سواء باسم الشرعية الثورية (سورية والعراق ومصر) أو الشرعية النضالية ضد الاستعمار (الجزائر) بإدامة تلك الشرعية عقودا عديدة، من خلال محاولة تحقيق العدالة الاجتماعية، حيث كانت الدولة تتبنّى سياساتٍ تنتصر للطبقات الفقيرة والمهمشة، وتضطلع بمسؤولية تأمين الخدمات الاجتماعية المختلفة من صحة وتعليم وغيرها، وذلك بديلا عن غياب الحرية. عندما تخلت هذه الدول عن هذه المهمة، من دون أن تقوم بإصلاحات سياسية، غابت الحرية والعدالة الاجتماعية معًا. ولأن الدولة فقدت وظيفتها الاجتماعية – الاقتصادية، بعد أن فقدت وظيفتها السياسية (الايديولوجية)، وقفت أمام المجتمع الثائر عاريةً بلا شرعية، إلا من سطوتها الأمنية، فجاء رد فعلها لذلك عنيفا على تمرّد مجتمعها عليها. رد المجتمع على عنف دولةٍ فقدت شرعيتها بعنفٍ مماثل، فانتهى النظام الذي حاول كل النماذج التي تسمح له باحتكار السلطة، وتعفيه من نقلها سلميا، إلى تقديم واحدٍ من أسوأ النماذج في تدمير الذات.

المصدر العربي الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا