بشار معترفاً ومتوعَّداً

لم يتأخر بشار الأسد في الرد على مظاهرات السويداء، تحسباً من استفحال الاحتجاجات على تدهور المعيشة، إذ سرعان ما أصدر المرسوم رقم 4 القاضي بتعديل المادة 309 من قانون العقوبات لعام 1949. المرسوم قضى بزيادة الغرامة على من يذيع أخباراً كاذبة تزعزع الثقة بالعملة، وكل ما يتعلق بالثقة المالية العامة، من مبلغ يتراوح بين مئتين وخمسين ليرة وألف ليرة إلى مبلغ يتراوح بين مليون وخمسة ملايين. لم ينسَ بشار في مرسومه الجديد تشديد عقوبة السجن، فمنع الأخذ بالأسباب المخففة التقديرية، ومنع إخلاء سبيل المتهم خلال جميع أدوار التحقيق والمحاكمة. فإذا افترضنا جدلاً القبض على متهم بريء، سيترتب عليه انتظار النطق بالحكم ليُخلى سبيله، من دون أن يكون له الحق في الادعاء على من سجنوه ظلماً طيلة تلك المدة.

يفترق المرسوم الجديد عن روح قانون العقوبات الذي أتت المادة المذكورة في سياقه، فالمرسوم يجرّم “كل” من أذاع أو نشر مزاعم كاذبة أو وهمية لإحداث التدني أو عدم الاستقرار في أوراق النقد الوطنية، بينما العقوبة في القانون الأصلي موجّهة إلى تنظيمات تقوم بهذه العملية حيث تكون عقوبة السجن مشددة نسبياً فيما لو كان المتهم موظفاً أو مسؤولاً في التنظيم. جدير بالذكر أن سياق قانون العقوبات الأصلي يتعلق بمكافحة ما يعتبرها تنظيمات إرهابية، والمادة اللاحقة 310 تنص على محاكمة الأفراد فقط في حال تحريضهم على سحب الودائع من المصارف والصناديق العامة أو بيع سندات الدولة.

الفارق الشاسع في العقوبة المنصوص عليها مالياً يفضح كذب صاحبها، فالانتقال من مبلغ ألف ليرة إلى مبلغ خمسة ملايين كحدين أقصيين للعقوبة يقول وحده ما حلّ من انهيار بالليرة السورية منذ بدء الحكم الأسدي حتى اليوم. عام صدور قانون العقوبات كان الدولار الأمريكي يعادل 2.2 ليرة سورية، ولم تكن هناك أسعار صرف تعسفية مفروضة من السلطة، أو على الأقل لم تكن أسعار السوق تختلف عن سعر الصرف المعتمد في المعاملات المالية الرسمية.

الغرامة الضخمة في المرسوم الجديد في حد ذاتها اعتراف بما يعاقب بشار السوريين على قوله. أكثر من ذلك، تبلغ قيمة الغرامة القصوى الجديدة قرابة 11500 دولار، ولا تقل عن 2300 دولار بسعر الصرف الذي تعتمده سلطته. بينما في القانون القديم، وقت إصداره، كانت الغرامة تتراوح بين 113 دولاراً و454 دولاراً. وحتى إذا أخذنا سعر الصرف الحقيقي السائد مؤخراً، فإن الغرامة القصوى تزيد عما يعادل 4000 دولار أمريكي، ورفع الغرامة بهذا المقدار مع لحظ التدهور المعيشي عما كان من قبل يعني المزيد من التشدد في العقوبة المالية، وعلى الأغلب استحالة دفعها من قبل غالبية من سيحاكَمون وفق المرسوم الجديد.

لو كانت سلطة الأسد ديكتاتورية، كما يصفها البعض اعتباطاً، لربما أصدر الديكتاتور حينها مرسوماً يتشدد في عقوبة السجن بهدف قمع الاحتجاجات على الغلاء، وبخدمة الترهيب المنظم الذي يمارسه. لو أن بشار الأسد نفسه أصدر مرسوماً يعدل فيه عقوبة السجن المنصوص عليها في القانون، لتصبح خمس سنوات مثلاً كحد أقصى، لأمكن فهم المرسوم على محمل تذكير السوريين بوجود هذه المادة وتوعّدهم بتفعيلها مع التشدد في العقوبة، وأمكن ردّ هذا التعسف إلى “نظام” ديكتاتوري يفرض هيبته.

المبالغة في قيمة الغرامة المالية تدحض الافتراض السابق، وتشير إلى سلطة من نوع شديد الشذوذ حقاً، سلطة تريد التكسب المالي حتى من أولئك المحتجين عليها بسبب فقرهم المدقع. لدينا سلطة لا توفر فرصة للنهب بشتى الأساليب والذرائع، بما فيها الاستخدام العجيب للقانون، مهما قلنا عن غياب سلطة القانون في الأصل. ومن خلال التجارب المريرة المعهودة، نعلم أن المرسوم الجديد سيتيح سبلاً لابتزاز بعض السوريين من قبل أزلام بشار الذين لن يتورعوا عن توجيه الاتهامات لهم، ثم قبض رشاوى منهم لتخليصهم من الافتراء الذي مارسوه عليهم.

فكرة التكسب من المحتجين أو المعارضين ليست بالجديدة تماماً، فقد مورست على نطاق ضيق نسبياً في الثمانينات، عندما استولى قادة أجهزة مخابرات على عقارات ثمينة تعود ملكيتها لأعضاء في جماعة الإخوان المسلمين، وكان ذلك يتم إما بالسطو على العقار فحسب، أو بادّعاء ملكيته أمام السجل العقاري، بغياب صاحبه المعتقل أو الهارب الذي لا يستطيع الاعتراض. مع انطلاق الثورة، برز “التعفيش” كأسلوب لاستباحة الممتلكات في المناطق الثائرة من قبل قوات وشبيحة الأسد، ليتخذ شكلاً “قانونياً” بإصدار قوانين تنص على مصادرة أملاك المعارضين وأفراد أسرهم. المرسوم الجديد، بشقه المالي، بمثابة استئناف لسياق وضيع من الاستباحة، أقل ما يُقال فيه أنه يعود إلى بربرية ما قبل الدولة.

في الواقع لا توفر سلطة الأسد مناسبة لإفهام من لم يفهم أنها على الضد من فكرة الدولة، وأنها أقرب إلى مفهوم العصابة المسلحة التي تتعاطى مع عموم السوريين كرهائن. المرسوم الجديد يؤكد ذلك لأولئك المحتجين، وفي ظنهم أنهم يحتجون على “الدولة” التي ينبغي أن تحتضنهم وترعاهم. لا ننسى هنا أن تعبير “الدولة” قد برز في أوساط الموالين مع بدء الثورة لإضفاء مشروعية على الحكم من خلال المطابقة بينه وبينها، وبحيث يكون الخروج على الأسد خروجاً على الدولة والوطن. أيضاً كان لإبراز تعبير الدولة، لمناسبة الثورة، مهمة تبرير عنف شبيحة وقوات الأسد على اعتبار أن الدولة هي التي تحتكر استخدام العنف.

توعّدُ بشار المحتجين على غلاء المعيشة بالسجن ودفع الثمن مالياً هو دليل جديد على العقل الذي يدير دولته المزعومة، والرسالة موجهة لجميع الباقين تحت سيطرته بلا استثناء. ليس من باب الهجاء أو القدح القول بأن على جميع الواقعين تحت السيطرة، المحتجين منهم والذين لن يراودهم خاطر الاحتجاج مطلقاً، التفكير انطلاقاً من أنهم رهائن، ومن يريد الخروج من قبضة الخاطفين “ومن لا يريد الخروج أيضاً” عليه ألا يتوهم للحظة ارتخاء قبضتهم.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا