خواطر على هامش اقتصاد الحرب السورية

في دراسة صغيرة تختزن الكثير مما يُقال ولا يُقال عن الأحوال المعيشية للسوريين حالياً، ذكرت مريم يوسف – وهو اسم مستعار لباحثة تكتب من دمشق – في مركز بحوث النزاعات التابع لمدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، ما يلي:
«للمرة الأولى ربما منذ بدأت الحرب السورية، يقضي الباعة في معظم الأسواق أياماً كاملة بدون أن يبيعوا قطعة واحدة».
«الانفجار قريب، لا يمكن أن يستمر الوضع على ما هو عليه»، جملة باتت تتردد كل يوم، بدون أن يعرف أحد أين ومتى وكيف يمكن أن يحدث هذا الانفجار؟ ولكن ما يعرفه الجميع هو أنه مقبل لا محالة، ولن يكون لطيفاً ورومانسياً، كما يحلو للبعض تخيله، كما أنه لن يكون حالماً مشابهاً لما كانت عليه الحال في بدايات انتفاضة عام 2011. سيكون انفجاراً عنيفاً، بمقدار كل العنف الذي اختزنه الناس في دواخلهم على مدى السنوات الماضية. ما ينتظرنا، إن حدث، هو أمر لا تحمد عقباه، وانفجار لن يكون أحد قادراً على استيعابه أو التعامل معه بالشكل الصحيح».
كان عنوان البحث بالإنكليزية ما معناه قريب من «فلتكنِ الفوضى والانفلات الشامل»، ليعكس الإحساس بأن انتظار الموت الجاثم فوقك، والذي يمكن أن ينقض في أي لحظة أصعب من الموت بالقذيفة المعروفة أثناء الحرب. وعند النشر بالعربية، تحاشى الناشرون ذلك المعنى، ووضعوا عنواناً أكثر بروداً وموضوعية. وإذا أراد الغريب أن يستوعب بعض ملامح الاقتصاد السوري حالياً أيضاً، يمكنه الاطلاع على بحث مكثف عنوانه «شبكة اقتصاد الفرقة الرابعة»، وهي الفرقة العسكرية المرعبة التي يقودها ماهر شقيق بشار الأسد، وصدرت عن «برنامج مسارات الشرق الأوسط»؛ كما يمكنه متابعة عمليات إحلال جماعة مكان أخرى، ومصادرة أموال التايكونات في أعلى الهرم، وتخليق تايكونات جديدة لها ميليشيات ومهام جديدة.. لتتشكل من ذلك صورة تقريبية عن اقتصاد الحرب السورية الآن.
خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة فقط، نقص سعر العملة السورية إلى نصفه، في حين أنه بعد ذلك وفي الأسبوع الأخير وحده من العام السابق، كما جاء في البحث المذكور، ارتفعت الأسعار بأكثر من خمسين في المئة. ويلاحظ هنا على الهامش، أن المدعوين من اليمين العنصري الأوروبي وأمثالهم، يصرون على شهاداتهم بأن «الأمور طبيعية» في سوريا، بعد أن يكونوا قد قاموا بسياحتهم في ذلك الكيلومتر المربع المعروف في دمشق القديمة، الذي يؤنس أمراء الحرب واقتصادها إلى مطاعمه وباراته، أو في فنادق ومطاعم متفرقة تستقبل الفئة ذاتها التي لن تزيد عن واحد في المئة بشكل من الأشكال. وليس هذا موضوعنا هنا.
مع بداية ديسمبر، رفعت الطغمة الحاكمة – مثلاً- رواتب العاملين والمتقاعدين بنسبة تقترب من الأربعين في المئة لمجاراة ارتفاع الأسعار السابق ولو بمقدار؛ إلا أن انخفاض سعر الليرة السورية بأكثر من تلك النسبة خلال شهر واحد، جعل من تلك الزيادة مهزلة سوداء. كل شيء يؤكد أن الدولة أصبحت علكة في أفواه المتسلطين عليها، على حساب الملايين الذين يتأوهون فقراً وجوعاً ورعباً. ولا يقابل تلك الحالة إلا قوانين مرتجلة تزيد فيها السلطة من إرهاب الناس، وتهددهم بالويلات لو تكلموا حتى على صفحاتهم الخاصة، حول مآسيهم ومعاناتهم، كما في القانون الأخير، الذي يعدّل المادتين 208 و309 من قانون العقوبات، اللتين طالما اعتمد عليهما النظام في شكلهما الأول في قمعه وسجنه لمعارضيه.
تثير السخرية أيضاً، وتؤكد على الاستنتاج أعلاه، عمليات خنق زبائن النظام السابقين عن طريق المصادرة المباشرة، أو الحرمان من متابعة العمل، أو حتى عن طريق إجبارهم على دفع «المعلوم» من ثرواتهم مباشرة، أو من خلال عمليات من نوع «مبادرة رجال الأعمال لدعم الليرة السورية»، تلك الليرة التي لا يمكن دعمها أولاً، ولا يمكن لمن يقوم بحلب آخر ما تبقى من رطوبة في جسم البلاد، حتى عن طريق استثمار تدهور قيمة العملة ذاتها، أن يدعمها ويوقف تدهورها.

يشير العديد من الدراسات المنهجية حول الأبعاد الاقتصادية للنزاعات المسلحة، إلى أن المنافع الاقتصادية، التي تحظى بها أطراف هذا النزاع، غالباً ما تكون سبباً في غياب دوافع وحوافز العملية السياسية. وربما كان هذا سبباً براغماتياً – قبل معاناة السكان العاديين أنفسهم – لاعتراض البعض على استخدام العقوبات الاقتصادية، كأداة لإنهاء النزاعات المعنية. وقد عاد هذا المنطق في النقاشات الدائرة إلى الأجواء السورية مؤخراً، مع التدهور الحاد الجديد بسعر العملة وتطوراته المحتملة المقبلة.
وفي استنتاجات بحث لمؤسسة بيرغهوف الألمانية حول المسألة، أن هنالك أثراً جيداً للعقوبات الاقتصادية بالدفع نحو الحل السياسي والسلام، في حالات كتلك التي كانت في كمبوديا وأنغولا وسيراليون. إلا أن هذه الحالات شهدت غالباً تدخلات عسكرية، كانت العامل الحاسم في إنهاء الصراع، بمشاركة العقوبات الاقتصادية إيجابياً، بدعم اختلال التوازن العسكري لمصلحة المنتصرين. وفي معالجة أخرى، يمكن للصراعات أن تنتهي بإحلال السلام، حينما تكون انعكاساً لصراع على الموارد، من معادن ونفط وغير ذلك، ويجري التدخل والوساطة الدبلوماسية بأخذ ذلك بعين الاعتبار، وتوزيع تلك الثروات والمغانم بين المتنازعين من أمراء الحرب.
وقد تحولت الثورة السورية اليتيمة؛ منذ سنوات إلى ما يشبه تلك الحالة، وبملامح أكثر قبحاً على الأغلب. وكان النظام و»داعش» الطرفين الأكثر فظاظةً بين القوى الفاعلة الداخلية آنذاك، في تفاعلهما الإيجابي مع الواقع الطارئ، واللجوء إلى التعامل الاقتصادي والتجاري، سلماً في زمن الحرب الأكثر بشاعة. ولكن ذلك لا يعفي الآخرين من المعارضة المسلحة، الذين انزاحت بنيتهم الفوقية بالتدريج نحو الأسلمة والتطرف وحتى الإرهاب، أو التحول إلى بندقية مأجورة أحياناً.. بدون أن يشمل المرء بهذا الحكم بطريقة عمياء عن أولئك الذين يدفعون الأذى عن قراهم ومناطقهم وأهاليهم، بدون الوقوع في إسار منطق الحرب واقتصادها، منطق الغلبة والغنيمة.
أهمل البحث المذكور أعلاه بعض الشيء العوامل الخارجية في النزاع على الموارد. تلك التي، في الحالة السورية، على سبيل المثال لا الحصر، تتعدى الصراع على ثروات ليست بتلك الأهمية الحاسمة، إلى الصراع على المكانة الاستراتيجية إقليمياً، كما في حالة إيران وتركيا، ودولياً كما في الحالة الروسية. ولا يبدو حالياً أن هنالك ما هو انعكاس للنزاع ذي الجذر الاقتصادي، أكثر من تلك الثروة الغازية في شرق المتوسط، التي وضعت روسيا يدها عليها مسبقاً، باتفاقاتها مع النظام وبوجودها العسكري الأكثر متانة نسبياً في موقعه. أما الحديث عن خط لنقل الغاز الإيراني مثلاً عبر سوريا، فهو بعيد عن الحسابات الراهنة. بعدَ المشكلة الإيرانية عن الحلّ الجذري. أما ما بقي من المخزون النفطي الحالي في داخل سوريا، فهو ليس بقادر على أن يؤثر على قوى فاعلة قوية وغنية بشكل حقيقي، وكان الرئيس الأمريكي الحالي سماها «بلاد الرمال والدماء» في جدالاته، كرجل أعمال في المجال العقاري الأكثر صراحة وعنفاً، أصبح رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية.
فاقتصاد الحرب السوري – بوجهيه الداخلي والخارجي- يبدو أكثر تعقيداً كلما اقترب أكثر من الانهيار، وأقلّ تأثيراً في الدفع باتجاه السلام ووقف الخراب وسيل الدم المسفوك. كما أن العقوبات الاقتصادية بقدرتها على إضعاف شرعية النظام وقدرته على الاستمرار كدولة عادية تشبه الدول الحديثة، بمعالمها أو بعض سماتها، لا تؤرق أهل النظام، وتدفعهم إلى إحالة الصعوبات نحو معيشة الناس، الذين أصبحوا يرون فيها رهينة حقيقية يهددونها بالموت لابتزاز العالم لتخفيف الضغوط عليه. إلا أن هذا التكتيك فقد قدرته على التأثير، في عالم تزداد وحشية نخبه ولامبالاتها.
يدفع كلّ شيء باتجاه منطق «اشتدّي أزمة تنفرجي»، ولكن تدهور الحالة الاقتصادية- الاجتماعية في داخل سوريا، وصل إلى مستوى يجعل المشردين خارجَ بلادهم موضع غبطة أو حسد. ونظرياً، قد يدفع ذلك إلى حراك من نوع المعاناة، خارج الطائفية في النظام ومعارضته ، وخارج النزاع العسكري ودماره ومآسيه اليومية المستمرة.


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا