سورية .. المحطة الأخيرة للإدارة الذاتية

عامٌ مضى وآخرُ بدأ على جملة من الدعوات والمبادرات التي سعت إليها الإدارة الذاتية (الكردية في سورية)، ما بين الحوار مع دمشق، أو دعواتها مُعارضيها إلى فتح صفحة جديدة، قوامها الانضمام للإدارة الذاتية، أو في أحسن الأحوال عدم الإتيان بشروط مسبقة للتواصل.

تتشابه غالبية دعواتها وتتقاطع في مضامينها والاستمرار في طرحها لمُخالفيها للانضمام إلى صفوفها. ست سنوات ولسانُ حالِ الإدارة الذاتية هو نفسه، لم يتغير طرح “تعالوا وانضموا إلينا”. وبل أصبحت فكرة “تعالوا لنعمل معاً ونتشارك الحياة السياسية” كالعملة النادرة أو المُنقرِضات. دخلت روسيا مُجدداً على خط الصراع السياسي الناعم بين الإدارة الذاتية (الكردية) والنظام في دمشق، حاملة معها نتائج حواراتٍ مع الطرفين، وكأن لا أحد في سورية سوى من امتهن عدم الاستفادة من درس التاريخ الرئيسي الذي يرفض الحرب على جبهتين، سوى الإدارة الذاتية.

وتقول أدبياتها إنها تمتلك قوة كبيرة في زمن الصراعات الثقافية والهوياتية والقومية، فتسميها القومويات الهدّامة لأسس البشرية أو ما شابه ذلك، وإنها تستمد قوتها من ريادة الطرح السياسي الذي يحمي للجميع قومياتهم، من دون تعدّي إحداها على الأخرى، كما تقول هي، وإنها تسعى نحو الثقافة والهوية الجامعة بدلاً من الهويات الفرعية التي تجلب المصاعب، ومزيدا من الدماء، وهذه أيضاً وفق رؤاها، وبل تدّعي عداءها ومعارضتها الرأسمالية بوصفها مشروعا هادفا لسحق الإنسانية والشعوب، وفق تصويرها المشهد السياسي في المنطقة، لكنها تدخل في تفاهمات مع الولايات المتحدة لأمورٍ تخصّها، وتجمع كُل تلك التعريفات ضمن سياق الأمة الديمقراطية والإدارة الذاتية.

بل تسعى إلى فرضها أساسا لأي نقاش أو حوار داخلي مع الأطراف الكُردية. ولا تلقى كل تلك الطروحات أيّ أهمية في دمشق، لكنها تفرضها فرضاً لزوماً عنوةً على مكونات “المنطقة الكُردية”. ولم يعد تهويل أهمية الإدارة الذاتية، براهنيتها الحالية، تنطلي على أحد، لكنهم يستمرون في النظر إلى الشعب على أنه مُجرد قطيع يُفكر ضمن صناديق مغلقة، وما عليه سوى التنفيذ. تسعى الإدارة الذاتية إلى إجبار المُتحدثين عنها على القول إنها غير تابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي).

وفق هذه الرغبة، جاز للقوّالين والكتّاب الحديث عن الصراعات التي خاضتها هذه الإدارة، وأصبحت متورّطة بالفعل في ثلاث حروب سياسية، عدا عن حربها وتركيا عسكرياً. واحدة منها داخلية مع الأطراف الكُردية غير المنسجمة وتوجهاتها وتطلعاتها ومشاريعها السياسية، والأخرى مع إقليم كردستان مع الكُرد أيضاً، وثالثة في الشمال والعمق السوريين. المنطقة التي تديرها الإدارة الذاتية هي فريسة لجماعاتٍ إرهابيةٍ، لا تعرف كيف تنتقم منها لمشاركتها الفعالة في الحرب ضد مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).

ومن ناحية أخرى، أصبحت هدفاً للنظام السوري، خصوصا ما أن ينتهي من حسم الأوضاع في إدلب لصالحه، وبل هي غرضاً ومسعى للوجود الروسي كي يحل عوضاً عن الوجود الأميركي. في صراعها السياسي مع الكُرد في سورية والعراق، تدرك الإدارة الذاتية جيداً أن كِلا الطرفين لن ينحوان صوب السلاح والعمل العسكري لفض الاشتباك السياسي، لكنها ذكيّةٌ جداً لجهة معرفتها أهمية الوجود في أيّ منبر سياسي دولي بشأن مستقبل سورية، ولسان حالها “قدّمنا 12 ألف شهيد ولم ننل بعد بطاقة العبور”.

ليست العبرة بزيادة أعداد الشهداء، وبل كما عبر عنه القائد العام لـ”قوات سوريا الديمقراطية”، مظلوم كوباني، “حاجتهم ليست للجنود الأميركيين للقتال معهم، إنما فقط ضماناتها للحل السياسي، وإنها قادرة على إطلاق حوار سياسي يفضي بينهم وتركيا إلى حل دائم”… وأوضح عبدي أنه “عندما نكون مخيّرين بين الإبادة العرقية وبعض التنازلات، فبالتأكيد إنقاذ الشعب من الإبادة هو الخيار الأسلم”.

لا إمكانية للجمع بين النقيضين، فإما الاستمرار في حماية آبار النفط وكسب الجغرافية السياسية من معبر سيمالكا حتى دير الزور، أو الانسجام مع الوساطة الروسية والحوار مع دمشق، وهذه تناقض تلك. إذ لم يعُد الوقت كافياً لمزيد من الابتزاز السياسي الذي تعتقد الإدارة الذاتية إمكانية الحصول على مزايا ومكاسب من خلالها، وخصوصا أنه لا نيّة واضحة للنظام في دمشق بالاعتراف السياسي بالإدارة الذاتية، عدا عن مطالبه بعودة سيطرة الدولة على كامل الشريط الحدودي، والسيطرة على معبر سيمالكا، الرئة الاقتصادية الوحيدة للمنطقة، والتي تديرها الإدارة الذاتية، وما سيترتب عليه من تغيرات سياسية على القضية الكُردية في سورية، من حيث تبدّل قواعد اللعبة السياسية، وبقاؤها ضمن صفوف المعارضة السورية من عدمه، والتأثير على إقليم كردستان العراق، ومع احتمال عودة العلاقات بين دمشق وأنقرة، فإن الأخيرة ستتمكّن من ابتزاز الإقليم اقتصاديا وسياسياً، عدا عن قطع صلة الوصل بين اللاجئين السوريين في الإقليم وذويهم في العمق السوري، كردياً وعربياً.

تُشير تسريبات إعلامية إلى مساع روسية لإشراك الإدارة الذاتية في العملية السياسية والدستورية بشأن سورية، وتقول القيادات العسكرية لدى الإدارة الذاتية إن خلافهم مع الدولة السورية هو بشأن الديمقراطية والمسائل السياسية، وليس بشأن الأرض أو السيادة، وهو بحدّ ذاته تحديدٌ لمسارات الحوار الكُردي – الكُردي قبل أن يبدأ. مسار الحوار المزعوم اليوم يختلف عن سابقاته من المرّات التي كانت تتبنّى روسيا فيها رعاية الحوار بين الحكومة السورية والطرف الكردي، وخصوصا أن روسيا سعت صوب تشكيل وفد كُردي موحد لأهداف روسية بحتة لمواجهة المحور الأميركي، وأن روسيا تسعى، بكل قوتها، إلى إخراج “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) من حلفها مع الولايات المتحدة، ولعل دعوات روسيا إلى تشكيل جيش جديد، قوامه من أبناء العشائر العربية، وأيضاً الكُردية إن رغبت، وبضمانات دفع رواتب جيدة، ما هي سوى ورقة ضغط كبير مزدوجة على أميركا وقوات “قسد” معاً، لإيجاد قوة عسكرية توازي قوة “قسد” شريكة أميركا في محاربة “داعش”، ولابتزاز “قسد” بإمكانية سحب العنصر العربي من ضمن تشكيلاته العسكرية.

يستشعر الكُرد شيئا من الخُبث الروسي، فموسكو تتجه إلى استخدامهم لابتزاز تركيا بسبب وجودها في ليبيا، وتفكيك سيطرتها على آبار النفط، وإعادة بسط نفوذ دمشق على النواتج الاقتصادية، أما قضية مشاركة الإدارة الذاتية في اللجنة الدستورية فإنها ستكون ضمن وفد النظام السوري، وهو ما يعني ضرورة تغيير البنية الحالية للإدارة الذاتية من قضايا الرئاسات المشتركة وحقوق باقي المكونات، عدا عن تخوف أهالي الرقة ودير الزور من عودة سيطرة الجهات الأمنية والعسكرية السورية عليها. وفي المجمل، لا تصبّ الخطوة سوى في مصلحة روسيا أكثر من الجميع، وهي الساعية صوب إبعاد إيران عن المنطقة.

وفق ذلك، ستصبح الإدارة الذاتية في هذا الحوار المقبل، ووفق النتائج الساعية إليها روسيا، جزءا من الدولة والحكومة السورية حالياً، وعليها أن تتحمّل تبعات ذلك، سواء كممثلين وحيدين عن الكُرد إن رجحت كفة مصالح النظام في دمشق وطلباته من الدستور، أو ستتحمل النتائج المؤلمة لهم إن نجحت المعارضة السورية. في جزئية الصفحة الأخرى من الحوار بين الإدارة الذاتية والمجلس الكُردي، فإنه يصطدم بجملة عراقيل، هي أكبر من قضية لائحة المعتقلين الذين يصرّ المجلس الكُردي على إطلاق سراحهم قبل البدء بأي حوار، وخصوصا أن تحديد مسارات الحوار وفق اتفاق سياسي بين الإدارة الذاتية والمجلس الكُردي، واتفاق عسكري بين “قسد” ودمشق، سيعني ضرورة تغيير البوصلة السياسية للمجلس الكُردي، فشراكة الأخير مع المعارضة السورية، وعلاقات الإدارة الذاتية مع النظام السوري، كفيلة بوضع الحوار على المحكّ، وضرورة اختيار وجهة سياسية موحدة، وهو ما سيترتب عليه تغيير في قواعد اللعبة السياسية وإعادة ترسيم جديد لتشبيك العلاقات، وفك ارتباط إقليمي، والدخول في تحالفاتٍ جديدة، وهو ما سيؤثر على علاقات إقليم كُردستان العراق، والوضع العام لقنديل، معقل حزب العمال الكُردستاني.

الجديد القديم نهائياً يتجلى عبر الطرح الأميركي للإدارة الذاتية والاتحاد الديمقراطي و”قسد”، بضرورة ترتيب علاقات الأطراف الثلاثة مع كُردستان العراق، وإنهاء أيّ توتر أو خلاف مع تُركيا وفق ما تقتضيه المصلحة التركية، أو فإن الـ140كيلومتراً المتبقية مما تسمى “الجغرافيا الكُردية” في سورية، وكانت هذه تبلغ قرابة 800 كيلومتر، ستلقى، هي الأخرى، مصير التفكيك النهائي. بعد قرابينَ وصلت إلى حدِ 12 ألف شهيد، ما إمكانية إعادة التاريخ نفسه مُجدّداً مع حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) على غرار ما حصل لحزب العمال الكردستاني، ويصبح هو الآخر ضحية لمصالح وأطماع إقليمية ودولية أكبر من حجمه، ومُجرد تفكيره بإمكانية اللعب على جميع الحبال؟

المصدر العربي الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا