سورية وخيانة إيديولوجيين عرب

لم يعد يجدي الحديث عن التواطؤ الدولي، المتمثل في الصمت المطبق على الجرائم المروعة التي يرتكبها النظام السوري ضد شعبه، مدعوماً من روسيا وإيران، فالمجتمع الدولي شريك في تلك الجرائم. أيضاً، لا جديد في الحديث عن التواطؤ الرسمي العربي هنا، فجلُّ النظام الرسمي العربي لا يخفي رغبته في انتصار نظام بشار الأسد على شعبه، وما مواقف دول، كمصر والإمارات والسعودية، خافية على أحد الآن. اللافت في هذا السياق ذلك التأييد المخزي، وليس مجرد الصمت الذي تجده تلك الجرائم بحق مدنيين سوريين بين يساريين وقوميين عرب، وبعض إسلاميين، لا يتصبّبون عرقاً، ولا تعلو وجوههم حمرة خجل، وهم يتبجّحون بالتغني بانتصارات “الجيش العربي السوري” الذي ليس له من إنجازات اليوم إلا سحق أبناء سورية، والعمل وكيلا للروس والإيرانيين. أولئك أعمى أعينهم، إما التعصب الإيديولوجي، أو سفاهة في تقدير الموقف، من أن نظام الأسد نظام “ممانعة” يتعرّض لـ”مؤامرة كونية”، تستهدف “محور الممانعة” في المنطقة، قبل أن تتدخل إيران وروسيا، وتُحبطا تلك المؤامرة! أما الثمن، فهو ضياع استقلال سورية التي أصبحت اليوم تحت وصايتين، روسية وإيرانية، بالدرجة الأولى، على أشلاء الشعب السوري.
بكل وضوح، ومن دون مواربة ولا رتوش، الحديث هنا عن خيانة في الرأي والموقف من بعض المثقفين والإيديولوجيين العرب. لقد سقط، أخلاقيّاً وَقِيَمِيّاً، أولئك الذين انحازوا إلى نظام الأسد، منذ انطلاق الثورة السورية عام 2011. هم لم ينحازوا يوماً إلى سورية الدولة وثقلها، بل إلى نظام فرّط فيها، وجعل منها إقطاعاً تديره مافيات وعصابات. لذلك انتفض الناس. لم يثر، بل على توظيف مزاعم التصدّي لإسرائيل في سبيل ترسيخ الفساد والكبت والقمع والترهيب. وكل من يمارس الخيانة ثقافيّاً وإيديولوجيّاً وموقفاً، ويسعى إلى تحويل فلسطين إلى خرقة لتبييض سجل نظام الأسد المجرم في سورية، فإنه يسيء إلى فلسطين أولاً وأخيراً، فحرية فلسطين لا، ولن تأتي، عبر تدمير سورية، وسفك دماء السوريين، وعلى أشلائهم.
من علامات الخيانة في الرأي والموقف التي يمارسها بعض المثقفين والإيديولوجيين العرب من جماعة اعتذاريي الأسد ونظامه أنهم يتحدّثون عن روسيا وإيران وكأنهما عمادا “محور المقاومة” ضد الإمبريالية الأميركية، عالمياً، والصهيونية الإسرائيلية، إقليمياً. وهم يعتبرون سورية ساحة ذلك الصراع “الكوني”!
المشكلة أن هؤلاء يتغاضون، اللهم عدا عن إشاراتٍ خجولةٍ متفرّقة، عن التواطؤ الروسي في سورية مع إسرائيل، في وقتٍ تجوب فيه طائرات الأخيرة المقاتلة فضاء الشام تقصف مواقع للجيش السوري، وأخرى للإيرانيين وحزب الله، وتدكّ فيه صواريخها ما تريد، متى شاءت. كل ذلك يجري تحت سمع الروس وبصرهم، ومن دون رادع من منظومة الدفاع الصاروخي (أس -400) التي نشروها في سورية، وتتحكّم في أجوائها. ولا يخفى على عاقل أنه ليس في وسع المقاتلات الإسرائيلية تنفيذ طلعاتٍ جويةٍ فوق سورية من دون تنسيق مع روسيا. أبعد من ذلك، لا يبدي أنصار النظام السوري، من “إيديولوجيي الممانعة” و”أعداء الإمبريالية”، أدنى امتعاض من حقيقة أن روسيا باتت تسيطر اليوم على السواحل السورية المطلّة على البحر الأبيض المتوسط. ويكفي أن نشير هنا إلى أن موسكو كانت قد وقعت اتفاقية مع دمشق، في أغسطس/ آب 2015، تسمح لها باستخدام قاعدة حميميم الجوية العسكرية (جنوب شرق اللاذقية) في كل وقت، ومن دون مقابل، ولأجل غير مسمّى. وبالمناسبة، قاعدة حميميم هذه هي القاعدة العسكرية نفسها التي استدعي إليها الأسد عام 2017 لمقابلة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وتعرّض فيها لإذلال مقصود ومتعمد من الضباط الروس، وأمام كاميرات التلفزيون، عندما منع من السير إلى جانب بوتين، وأرغم على السير خلفه. إذا لم يكن هذا احتلالاً عسكرياً وإمبريالية روسية، فماذا يكون؟
أما الحديث عن الدور الإيراني فهو أكثر تعقيداً. صحيح أن إيران وأدواتها في المنطقة، خصوصاً حزب الله اللبناني، استطاعوا أن يعادلوا كفّة نظام الأسد أمام مناوئيه عسكرياً، قبل أن يدخل الروس على الخط ويقلبوها لصالحه، إلا أن إيران لا تخفي تبجّحها بأنها باتت تسيطر على دمشق ضمن محور العواصم العربية الأربع تحت قبضتها، بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء. وعلى الرغم من أن الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، كان صرّح عام 2015، بأن “طريق القدس يمر بالقلمون والزبداني والسويداء والحسكة” في سورية، إلا أن هذا الطريق لم يصل إلى وجهته يوماً، ولا يبدو أنه في وارد ذلك. بل على العكس، فإن إسرائيل تشنّ الهجمات تلو الهجمات على الحرس الثوري الإيراني وقوات حزب الله في سورية، ولا نكاد نرى ردّاً واحداً مقنعاً، ذلك أن إيران وأدواتها مشغولون الآن أكثر بهزيمة المعارضة السورية وكسر شوكة الشعب السوري. كل هذا لا يزعج أنصار “محور المقاومة” من المنحرفين إيديولوجيّاً بين العرب، كما لا تزعجهم محاولات إيران وأدواتها العبث بالمعادلات الديمغرافية والطائفية في سورية، في حين تجدهم لا يكفون عن الردح على تركيا واتهامها بمثل ذلك في شمال شرق البلاد.
باختصار، لا تكون الخيانة في صورة العمالة فحسب، بل هي تأخذ صوراً كثيرة، منها الخيانة الفكرية والسياسية، والخيانة في الموقف كذلك. ومواقف يساريين وقوميين كثيرين، وبعض الإسلاميين، من العرب المؤيدين لنظام الأسد تندرج في هذا السياق. إنهم لا يقفون مع سورية العروبة كما يزعمون، بل هم متواطئون في وأدها وتدميرها. وإذا كان الشعب السوري الذي تحول معظمه إلى قتلى وجرحى ومعتقلين ولاجئين ونازحين ومشرّدين ليس مخلصاً لعروبته، ولا يفهم معنى “الممانعة”، فما جدوى “المؤامرة الكونية” عليه؟ المؤامرة الأكبر على سورية هي التي ينخرط فيها نظامه ويصفق لها المصابون بالعمى الإيديولوجي بيننا، في حين تمزّق جسد سورية بين روسيا والولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا. وبالمناسبة، لا أجدني متردّداً في القول إن تركيا هي أشرف اللاعبين في سورية اليوم، وإن كنت أتمنى أن تتعافى الشام من كل ما أصابها، ومن سطوة نظامها المجرم، ومن كل تدخل أجنبي فيها، وأن تكون بحق “قلعة صمود” عربية.

المصدر العربي الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا