متوالية التصعيد القاتلة

لا يحجب ضجيج التهديد المتبادل بين إيران والولايات المتحدة، بعد مقتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، اللواء قاسم سليماني، حقيقة المعضلة التي انزلق إليها الطرفان، منذ انطلقت متوالية التصعيد بينهما في مايو/ أيار 2018، عندما انسحب الرئيس الأميركي، ترامب، من الاتفاق النووي. منذ ذلك الوقت، اتبع الطرفان، على الرغم من حذرهما الشديد، مقاربةً لا تحتمل أي خطأ في الحسابات، بغية تحقيق أهدافهما. تمثلت المقاربة الأميركية في ممارسة أقصى الضغوط على إيران، لإجبارها على إعادة التفاوض على اتفاق جديد، من دون تمكينها من الرد، ومن دون الدخول في حربٍ معها أيضا. عمدت إيران إلى رفع التكلفة على إدارة ترامب، بحيث تجبره على إعادة النظر في سياسته نحوها، من دون أن تعطيه الفرصة لضربها. وقد مالت إيران إلى هذه المقاربة، بعد أن تبين لها أن سياسة “الصبر الاستراتيجي” التي تبنّتها في البداية لن تمكّنها من الصمود حتى موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020. منذ ذلك الوقت، وقع الطرفان في سلسلة من الأخطاء، وسوء التقدير، تحوّلت إلى متواليةٍ يصعب وقفها.

بدأ خطأ الحسابات الإيرانية في مايو/ أيار 2019، عندما صدمت طهران بقرار إدارة ترامب إلغاء الإعفاءات التي كانت منحتها لثماني دول للاستمرار في شراء النفط الإيراني، بعد أن دخلت العقوبات على قطاع النفط الإيراني حيز التنفيذ في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018. ظنت إيران أن ترامب لن يُقدم على هذه الخطوة، خشية حصول صدمةٍ في الأسواق ترفع الأسعار. لكن الإعفاءات ألغيت، وقامت روسيا بتعويض النقص، ما جعل الأثر معدوما تقريبا على أسعار النفط. وتوقعت إيران أن يرفض كبار المشترين لنفطها، وهم الصين والهند وتركيا، الالتزام بالحظر الأميركي، ولكن هذا لم يحصل أيضا. وتوقعت إيران أن يتخذ الأوروبيون، بدافع حرصهم على الاتفاق النووي، والصفقات التجارية الكبرى التي اتاحها لهم في إيران، مواقف صلبة في مواجهة العقوبات الأميركية، وإيجاد مخارج تسمح لإيران بالصمود حتى انتخابات 2020.
دفعت هذه الإخفاقات طهران إلى الانتقال إلى مستوى أعلى من التصعيد مع واشنطن، فرفعت شعار “إذا لم نستطع تصدير نفطنا فلن يصدّر الآخرون نفطهم”. وعليه بدأت، إنما بأسلوب “شبحي” يمكّنها من نفي مسؤوليتها، بمحاولة تعطيل الملاحة في الخليج، واستهداف ناقلات نفط، أملا في دفع ترامب إلى التراجع عن سياسة تصفير صادرات النفط الإيراني. عندما لم يرد ترامب على هذه الإجراءات، بما في ذلك إسقاط طائرة درون أميركية في شهر يوليو/ تموز 2019، وتعطيل منشآت “أرامكو” في سبتمبر/ أيلول التالي، انتقلت إيران إلى الضغط على أميركا بشكل مباشر في العراق، في رفعٍ جديدٍ لمستوى التصعيد.
جاء قرار إيران نقل المعركة إلى العراق أيضا بعد أن رفض الرئيس ترامب المبادرة الفرنسية لإنشاء خط ائتمان بقيمة 15 مليار دولار مقابل مبيعات نفط إيراني لأوروبا، تكون بمثابة ثمن لموافقة إيران على استئناف المفاوضات مع واشنطن. لم يكتف ترامب برفض المبادرة، بل شدّد العقوبات على طهران، مع تنامي المؤشرات على فعاليتها التي بدت واضحةً في الاضطرابات الواسعة التي شهدتها إيران منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بعد قرار رفع أسعار المحروقات، فضلا عن آثار الإنهاك التي ظهرت أيضا على حلفائها، وانعكست في الاحتجاجات التي اندلعت في العراق ولبنان.
بدأ التصعيد الإيراني ضد واشنطن في العراق عبر دعواتٍ أطلقها حلفاء طهران في البرلمان لإلغاء الاتفاقية الأمنية التي تنظم الوجود العسكري الأميركي في العراق. سجلت واشنطن بعدها زيادة كبيرة في استهداف قواعد عراقية، تؤوي جنودا ومتعاقدين أميركيين. في الهجوم الذي وقع يوم 27 ديسمبر/ كانون الأول الماضي على قاعدة قرب كركوك، قتل متعاقد أميركي وجرح أربعة جنود. رد الأميركيون بقصف معسكرات لكتائب حزب الله العراق. وردت إيران، من خلال مليشيا الحشد، بمحاصرة السفارة الأميركية في بغداد ومحاولة اقتحامها، فجاء الرد الأميركي بقتل “رمز” مشروع إيران الإقليمي. أرادت واشنطن بقتلها سليماني، على ما يبدو، كسر متوالية التصعيد مع إيران بأسلوب الصدمة، بحيث تمتنع بعدها إيران عن الردّ نهائيا، وتقبل بالتفاوض. إذا لم ينجح ذلك، وردّت إيران، فالحرب حينها قائمة لا محالة.

المصدر العربي الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا