هتلر والأسد: سيرة متشابهة ونهاية مشتركة

(خاص السورية. نت 28/ 05/ 2015)

خمس سنوات مرت منذ أن هلّت البشاير من حوران. سقط مئات آلاف الضحايا وعدد لا يعلمه إلا الله من الإعاقات الجسدية والنفسية.

سمعنا الكثير وقرأنا أكثر من التحليلات والنظريات ونظام الأسد لا يزال قائماً. ”الأسد أو نحرق البلد“. عن أي عقل شيطاني مريض بطائفيته صدر هذا الشعار؟

وأي عقل أكثر مرضاً يطبقه اليوم؟ ولماذا لا يزال بشار رئيساً لسورية؟ يخرج علينا في لقاءاته الصحفية ببدلته الأنيقة دمثاً ويداه تقطران دماً سورياً وفلسطينياً ولبنانياً…

  العنوان: The End

المؤلف: Ian Kershaw

Penguin Press

أيلول 2011، 592 ص

إيان كيرشو مؤرخ وكاتب إنكليزي متخصص بتاريخ هتلر، وكتب العديد من المؤلفات كان آخرها كتاباً من المعيار الثقيل بعنوان ”النهاية“ وقد خصصه للحديث عن آخر أيام الحكم النازي. يقول: ”في الحروب، غالباً ما تقبل القيادة بالاستسلام عندما تدرك أنها قد خسرت الحرب حقاً. ومن النادر جداً أن يستمر طرف في تدمير نفسه كليةً وأن يتابع القتال حتى النهاية أي حتى الاندحار التام ودخول العدو أراضيه بكليتها واحتلالها“. ومع ذلك، فهذا ما حصل مع الألمان. فمنذ تموز سنة 1944 بعد محاولة الاغتيال الفاشلة ضد هتلر (التي كانت علامة انشقاق داخلي كبير في جسد نظام الديكتاتور) والجميع يعرف أن الفهرر قد خسر الحرب. فالحلفاء قد نزلوا في شمال فرنسا ويتقدمون في جنوب إيطاليا والجيش الأحمر يتقدم بحسمٍ في الشرق. ومنذئذ حتى 8 أيار 1945 يوم استسلام ألمانيا (أي عشرة أشهر وهي الفترة التي يدرسها الكتاب) قُتل من الجيش والمدنيين أكثر مما قُتل خلال سنوات الحرب بأكملها!

  ”في الحروب، غالباً ما تقبل القيادة بالاستسلام عندما تدرك أنها قد خسرت الحرب حقاً. ومن النادر جداً أن يستمر طرف في تدمير نفسه كليةً وأن يتابع القتال حتى النهاية أي حتى الاندحار التام ودخول العدو أراضيه بكليتها واحتلالها“. كيرشو

فلماذا؟ الجواب بسيط يقول كيرشو: إنه هتلر الزعيم ورأس النظام، فهو من كان يأمر بالقتال ويطالب بمزيد من التضحيات غير آبهٍ بتفسخ الدولة حوله. لكن هتلر بمفرده ما كان بوسعه أن يفعل ذلك وتحليل ”لماذا“ مرتبط بتحليل ”كيف“؛ فيبرز مزيدٌ من الأسئلة: لماذا كانت أوامر هتلر لا تزال تُنفذ مع أنها تحمل خراباً محقَّقاً لألمانيا وكيف؟ أية آليات في السلطة كانت تسمح له بتقرير مصير البلاد بينما الأمر واضح، لكل من له عينان، أنه قد خسر الحرب وأن البلد مستباحة؟ إلى أي مدى كان الألمان مستعدون للوقوف مع هتلر، رغم علمهم أنه يسير بهم نحو الدمار الأكيد؟ هل كانوا مستمرين في مساندته بإرادتهم ورغبتهم؟ أم كانوا مجبرين؟ لماذا وكيف استمرت القوات المسلحة في القتال والجهاز الحكومي في العمل حتى النهاية؟ في آخر مراحل الحرب، ما هي الخيارات التي كانت أمام الألمان، شعباً وجيشاً؟ لماذا استمر نظام هتلر يقتل ويقتل حتى آخر رمق؟ لماذا استمرت الإعدامات حتى قبل السقوط بنصف ساعة؟ وكيف تم كل ذلك؟

يحكي الكتاب قصة حدثت يوم 18 نيسان 1945، كانت الدبابات الأمريكية على أبواب مدينة أنسباخ. كل شيء كان يوحي بالنهاية، لكن القائد العسكري للمكان كان يرفض الاستسلام، كان يفضل الموت ومنظر الدمار والدخان. فجأة، حاول طالب في اللاهوت تحدوه الرغبة في إنقاذ مدينته من جنون العسكر، في حركة يائسة أكثر منها بطولية أن يقطع أسلاك الهاتف التي تصل الوحدات بقيادة الفيرماخت. وعندما دخلت المدرعات الأمريكية أنسباخ بعدها بعدة ساعات، كان جسد ”المخرب“ معلقاً على بوابة البلدية. لقد وشى به طفلان من ”طلائع هتلر“، فقام الناس بسحب الشاب من شعره وقتلوه ركلاً وضرباً. كان الرايخ بأكمله ينهار، لكن مشانقه تعمل.

  استمدت  بنية النازية شكلها الخارجي وقوتها الداخلية من الأفراد. ”كان في داخل كل ألماني مشاعر متلاحمة من الطاعة والشرف والوطنية والتعصب والتسليم بالقضاء. كانت بصائرهم عمياء وفيهم وحشية وبهيمية وخوف وإحساس بالذنب وجُبن. وكانوا يقدسون النظام ولا يفكرون في عصيانه“.

للإجابة على تلك الأسئلة، بدأ المؤلف بتحليل بُنى السلطة النازية، لكنه سرعان ما أدرك أن ذلك لا يكفي فقرر تحليل العقليات التي ساعدت على استمرار المقتَلة حينما كانت الكارثة تقترب من ألمانيا لا محالة. فدرس تلك البُنى (وعلى رأسها هتلر الحاكم المطلق) وآليات عملها والحزب والإدارة والصناعة والسكان: ”فالبنية مهما كان معدنها لا بد لها من مواد وقوى حاملة“. بنية النازية كانت تستمد شكلها الخارجي وقوتها الداخلية من الأفراد. ”كان في داخل كل ألماني مشاعر متلاحمة من الطاعة والشرف والوطنية والتعصب والتسليم بالقضاء. كانت بصائرهم عمياء وفيهم وحشية وبهيمية وخوف وإحساس بالذنب وجُبن. وكانوا يقدسون النظام ولا يفكرون في عصيانه“. ولا يعتقد المؤلف أنه بوسعنا بعد الحرب أن نفصل بين الألماني والنازي. فتلك الأيديولوجية ليست وليدة البارحة بل هي متأصلة في تاريخ المجتمع الألماني: ”هذا الفكر لا يخرج من العدم. لا بد له من تربة خصبة“. يعود المؤلف للبحث عن بذور ذلك إلى ما قبل 1918. فينبش في التاريخ الألماني، في ثقافته، في الأساطير الجرمانية القديمة، ويدرس كيف تُشكِّل الأديان المجتمعات وتأثير التربية على الشباب ويتتبع الخطوط النفسية الجَمعية وجذور التصلب العقائدي في كافة مجالات الحياة وإعادة إنتاجه. بل يصل إلى حد تحليل تأثير الفلسفة الحديثة (القرن 16) وتشديدها على عظمة الشعب الألماني (وهو ما انتقده نيتشه في القرن 19). بعدها قام كيرشو بتحليل العقليات على مختلف المستويات: عقليات الرؤساء والمرؤوسين، الناس العاديين والجنرالات. مع التشديد على عدم الوقوع في فخ التعميم، فألمانيا بلد كبير، وإنْ كان كابوس الحرب قد جثم عليها كلها، فإنه لم يجثم بضغط نفسه على كل المناطق، حتى طبيعة الجبهات كانت مختلفة، فاختلفت عقلية الجنود والناس.

  الحلقة المقربة والداعمة لهتلر والخوف من الجيش الأحمر والهيمنة الشيوعية واعتقاد الألمان أن هتلر هدية من السماء والضمان للتصدي لقوى الشر… كل ذلك ساعد على صمود نظام هتلر.

يعزو البروفسور ما حدث إلى ثلاثة عوامل، علاوة على التأثير المَرَضي لشخصية الفهرر على النخبة، وهي: 1-الحلقة المقرَّبة: يمثلها ”مجلس الأربعة“، ورؤساء فروع الحزب في المحافظات (الغاوليتر). أما الأربعة فهم مارتن بورمان مستشار هتلر ورئيس الحزب النازي (وهو من جعل الحزب رقيباً على جميع نواحي الحياة وابتكر الميليشيا الشعبية وأشاع الرعب داخلياً والقمع الشديد مما جعل أي تمرد داخلي أمراً مستحيلاً)، والداهية جوزيف غوبلز وزير الدعاية الحربية، وهينريش هيملر وزير الداخلية ورئيس الغستابو، والمهندس المعماري ألبير سبيير وزير التسليح والإنتاج العسكري (الذي استطاع بعبقريته المحافظة على تدفق الإنتاج الحربي رغم كل الظروف). أما الغاوليتر، فقد ساندوا القيادة المركزية حتى النهاية وكانوا فعّالين جداً في تطبيق سياستها الانتحارية واستمروا في تطبيق الدعاية الهتلرية على الناس أو في قمعهم أكثر وأكثر. هؤلاء كانوا من أقرب الناس للفهرر ومن المؤمنين بفكره وبتفوق العِرق الآري. كانوا متطرفين في وطنيتهم (راجع كتاب ألبير كامو ”رسالة إلى عدوي الصديق“). ولولا عنجهيتهم لأُنقذت آلاف الأرواح لكنهم أيدوا وشرعنوا سياسة هتلر الخَرقاء. كيف نفسر هذا؟ كيف نفسر سياسة الأرض المحروقة العبثية والقمع المتوحش الذي كانوا يصبوه على المواطنين الألمان قبل غيرهم!

2-الخوف من الجيش الأحمر: ومن الهيمنة الشيوعية. فالسوفييت كانوا يردون على عنف النازية بعنف مضاعف، فارتكبوا المجازر حيثما دخلوا خاصة تلك التي اقترفوها لدى تقدمهم على الجبهة الشرقية في مدينة نمرسدورف في تشرين الأول 1944 والتي نقل أهوالها الناجون. 3-خوف الناس: شريحة كبيرة من الشعب كانت تعتقد أن هتلر هدية من السماء لإعادة مجد ألمانيا، لكن حماسهم برد مع تراكم الهزائم والموت على يد الروس أو قصف الحلفاء. كان الشعور السائد هو القلق والخوف من الدب الروسي. وإنْ ظهرت بعض الانتقادات الخجولة للمسؤولين وللحزب وحدثت انشقاقات عن الجيش (التي كانت تقمع بشناعة)، لكن الأغلبية ظلت مطلقة الولاء ومساندة للمجهود الحربي. كان الجو مشحوناً بالضيق والاضطراب إنما ليس بالتمرد. وظلوا يعتقدون أن بوسعهم أن يربحوا الحرب أو أن يحصلوا على سلام مشرِّف.

  إن نقاط التطابق بين الحالة الألمانية والحالة السورية كثيرة: من مسؤولية بشار الأسد الشخصية عن كل ما يجري، إلى تعنت الحلقة الضيقة المحيطة به، إلى موقف الموالين واختبائهم وراء ”فزاعة“ الإسلاميين…

إن نقاط التطابق بين الحالة الألمانية والحالة السورية كثيرة: من مسؤولية بشار الأسد الشخصية عن كل ما يجري، إلى تعنت الحلقة الضيقة المحيطة به، إلى موقف الموالين واختبائهم وراء ”فزاعة“ “داعش” والإسلاميين، إلى العقليات المريضة المساندة لما يحدث والتي ينطبق عليها قوله سبحانه وتعالى ﴿قل هل ننبؤكم بالأخسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا﴾. ويبدو جلياً أن النظام ماضٍ في حرق البلد حتى ”النهاية“، مع فارق أن الغرب غير جاد في ”تحريرنا“ كما فعل مع الألمان… إلى آخر القائمة الطويلة من المعطيات المتشابكة على ساحة المنطقة.

النهاية؛ عنوان جميل وساحر. قد تكون نهاية نظام الأسد ونهاية المخابرات بكل فروعها العفنة، قد تكون نهاية كابوس الطائفة الحاكمة أو نهاية الحرب ونهاية القتل والموت النازل من السماء من طائرات مهلهلة يقودها جنود أكثر هلهلة. أو نهاية الغربة لملايين الناس. وقد تكون بداية عهد أكثر سواداً وأكثر دموية وفوضى… ولكن كلا، لن يكون هناك عهد أسوأ ولا أكثر سواداً من عهد آل الأسد. ثم ألم نغني جميعناً مع مارسيل ذات يوم ”مش هيك شرع الكون بكرا راح يصير ولا هيك راح بتضل مركبة الدني مشلولة عم بتجرها عقول الحمير“.

أمل سارة

قد يعجبك أيضا