قتل الهاشمي كعلامة في مسار تنضيب داعش

ليس من الوارد أن تكشف الاستخبارات الأميركية، الحيثيات والوقائع التي قادتها إلى منزل أطمة، حيث كان يقطن زعيم تنظيم داعش الجديد، أبو إبراهيم الهاشمي. وستبقى الأحداث السابقة لقتله العلني، خليطاً من الفرضيات والتكهنات والمعلومات المضللة، وسيبقى التحليل أداة المراقبين الوحيدة المتاحة لاستنتاج الحقائق الممكنة. لكن النتائج كلها تشير، وفق تصورنا، إلى ضعف بالغ في قوة التنظيم، الذي سيعيش مرحلة من الترنح والاضطراب، تشبه من نواحٍ عديدة، المراحل الأخيرة من “الصَّداميّة”، ونقصد هنا التيار الايديولوجي والسياسي والعسكري الذي أرساه الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، بمكوناته الفكرية والبشرية، التي ورثتها سلسلة التنظيمات الجهادية العربية السنيّة في العراق وسوريا المجاورة.

أول الفرضيات التي أشرنا إليها، هي التي حاول البيت الأبيض توجيه التحليلات صوبها، وتقول إن متابعة استخباراتية متواصلة وحثيثة، أوصلت الاستخبارات الأميركية إلى مخبأ الهاشمي، واتُّخذ قرار تصفيته بُعيد عملية سجن غويران، لحرمان التنظيم من حصاد أي نتائج ذات قيمة لتلك العملية الفاشلة. ومع أنه من المتعارف عليه استخباراتياً، أن تُعطى معلومات غير صحيحة لحماية المصادر وعمليات أخرى محتملة، لكن إذا صح، فهذا فمعناه أن الاستخبارات الأميركية استكملت معلوماتها عن الشبكة المرتبطة بزعيم التنظيم، وأضحت في حالة انكشاف وتحت الرصد، وسيبقى كل المنتمين إليها تحت تهديد إطاحتهم تباعاً وما أن يطلوا برؤوسهم.

الفرضية الثانية، وهي التي نميل إليها، هي أن ثمّة خطأ بشرياً جسيماً من النوع الأمني، ارتُكب في مرحلة ما، وهو على الأغلب الاضطراب الذي رافق إدارة معركة غويران، وفي قطاع الاتصالات المرصودة جيداً من قبل الجانب الأميركي على وجه التحديد، أو ربما معطيات تتعلق بمن شاركوا في العملية، أو اعترافات أدلى بها بعض المقبوض عليهم. وهذا معناه ضعف شديد في الترتيبات الأمنية للعملية ولحماية رأس التنظيم ذاته، إذ ليس من المنطقي أن يدير عملية بهذه الضخامة، من مقره الدائم، أو أن يبقى في مكانه بعد وقوع مقاتلين وأجهزة اتصال، يمكنها أن تقود إليه، في إيدي الاستخبارات الأميركية بالغة التطور.

أما الفرضية الثالثة، فهي وشاية مقصودة في أحد أجنحة التنظيم غير الراضية عن الزعيم الجديد وسياساته، وربما نهجه الإيديولوجي، قرر التخلص منه بعد المذبحة التي تسببت بها عملية غويران. ويحوز هذا الاحتمال نسبة عالية من المصداقية، بالنظر إلى الانقسامات الهائلة بين نخب التنظيم في معركته الأخيرة في الباغوز، وحالات التمرد التي نشأت هناك، كما ذَكَر ذلك بالتفصيل عدد من معتقلي التنظيم في العراق.

وتبقى الصدفة البحتة فرضية واردة، لكن دلالاتها أيضاً تصب أيضاً في خانة تهالك قوى التنظيم الذي تعد السريّة وقوته الأمنية أهم ركائزه.

قلنا في مقالة سابقة، إن مجريات معركة غويران تفيد بأن داعش فاقد للقوة والقيادة الاستراتيجية، من ناحية التخطيط والتنظيم والقوة البشرية، ويعاني التفكك لدرجة العجز عن استنفار قواه لحماية ظهر المهاجمين والقائمين بها أو مساندتهم. وقد أكدت لنا مصادر قريبة من العملية، إن الخطة كانت تستهدف تأمين فرار نحو 800 عنصر من الكفاءات السياسية والإدارية والعسكرية، بأي ثمن. حتى أنهم أُمروا بعدم القتال أو انتظار ما تسفر عنه المعركة، ويبدو أن هؤلاء هم “دينامو” التنظيم، ممن تجمعوا في آخر معاقله بالباغوز العام 2019، ولم يتمكن الهاشمي وزملاؤه الطلقاء من تعويض مشاركتهم.

لقد أودت المعارك الطاحنة بمعظم الجيل الشاب من قوة التنظيم البشرية، فيما قتل أو اعتقل أعضاء الصف الأول الأكبر سناً، ونجمت عن ذلك فجوة جيلية في القيادات المؤهلة والقادرة على دفعه قدماً. وتؤكد هذه المعطيات ما أوردته صحيفة “النبأ” التي يصدرها داعش، بُعيد عملية الحسكة، إذ قالت إن عناصره شنوا في آسيا وإفريقيا 49 عملية، منها 18 في محافظة دير الزور السورية، أي نحو ثلث العمليات. وبتفحص هذه العمليات، نجد أنها عبارة عن اغتيالات لسكان محليين، من المدنيين المتعاونين مع “قوات سوريا الديموقراطية” غالباً، وهي سهلة ولا تقتضي سوى إمكانات متواضعة وقوة بشرية محدودة للغاية، عدداً وكفاءة. ووفق مصادر محلية، فإن منفذيها هم فتيان غير مؤهلين، من بقايا “أشبال الخلافة” الذين تلقوا تدريباً أوّلياً فحسب قبيل سقوط التنظيم.

من ناحية أخرى، يشير لجوء القائد الهاشمي إلى المنطقة التي قتل فيها سلفه البغدادي، ليس فقط إلى عدم القدرة على التعلم من الدروس، بل أيضاً إلى عدم وجود مناطق يسيطر عليها التنظيم فعلياً كما يشاع عادة عن هيمنته الفعلية في مناطق شاسعة، خصوصاً في صحراء الأنبار العراقية وباديتي الشام والروضة في شرق سوريا. ويمكننا أن نتخيل حيرة من تبقى من القادة والعناصر المتوارين عن الأنظار، عند تفكيرهم في ملاذ آمن يمكنهم اللجوء إليه لإعادة بناء قوتهم بهدوء، والاستعداد لانطلاقة جديدة.

لم يكن “الصَّداميون” أقل تطرفاً وشراسة من عناصر تنظيم داعش. تشهد على ذلك معاركهم مع القوات الأميركية في المراحل المبكرة من الحرب العام 2003. لكنهم فقدوا الروابط التنظيمية والمصداقية، فجيروا قوتهم لصالح الجهاديين، الذين يستمدون قوة دافعة من “المظلومية” السنيّة في العراق وسوريا. لكن عجز هذه التنظيمات عن حلّ المعضلة بالأساليب المقترحة، وتوجيه الشطر الأعظم من عنفها نحو الجماعة السنيّة بالذات، أدى إلى تراجع الدعم والتأييد الذي حازته ذات يوم. هي ستبقى في الميدان، كما بقي الصَّداميون، لكن علاوة عن ضعفها الشديد وتمزقها الداخلي، ستحرم أيضاً بالتدريج من الطاقة التي يولدها التوتر الكامن في المجتمعات السنيّة، والتي لم يعد أمامها من خيار سوى تصريف تلك الطاقة في مسرب آخر غير هذا المنزلق المدمر. ولربما يكون سبيل النضال السياسي شبه السلمي، بعد كل هذه التجارب العنيفة، هو السبيل الجديد الذي ستذهب فيه، وعلينا ألا نستغرب ذلك بالنظر إلى التحول السابق من الصَّدامية إلى الداعشية، أي من النهج القومي العلماني، إلى المنهج الديني المذهبي.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا