أكراد سوريا..والقرار المصيري

خلال مدة متقاربة، كرر قادة في سلطة الأمر الواقع شمال شرقي سوريا دعوات الحوار مع الخصوم، تركيا والائتلاف السوري المُعارض، آخرها لفتاً للانتباه صدرت عن قائد قسد مظلوم عبدي، والرئيسة المشتركة للهيئة التنفيذية لمسد إلهام أحمد، وهما مظهراً لا جوهراً، يمثلان أعلى سلطتين، عسكرية وسياسية، في المناطق التي تحكمها ما يُعرف بالإدارة الذاتية، فما هي دلالات هذه الدعوات؟ ومن أي زاوية يمكن النظر إليها في سياق المتغيرات الحاصلة؟ وأي رسائل يُراد منها وإلى من؟

لا بد من نقطة انطلاق مركزية، للإحاطة بالأسئلة السابقة، وهذه النقطة هي “شكلية” المسميات والأطر العسكرية والسياسية شمال شرقي سوريا، بمعنى أن لا قائد قوات قسد يمثل أعلى سلطة عسكرية، ولا الرئاسة المشتركة لمسد تمثل أعلى سلطة سياسية.

من يحكم شمال شرقي سوريا؟

شمال شرق سورية سياسياً وخدمياً وعسكرياً وأمنياً، يحكمًه أربع أشخاص من أكراد سوريا، هم مجرد واجهة لأربعة من خلفهم، هم أعضاء في اللجنة التنفيذية في منظومة المجتمع الكردستاني، والتي يقودها عمليا جمال باييك، وريث عبدالله أوجلان، أو بشكل أدق المنافس الذي يلبس ثوب الوريث والتابع. هذه المنظومة تقود أربعة أحزاب كردية، وهي العمال الكردستاني في تركيا، والحياة الحرة في إيران، والحل الديمقراطي في العراق، والاتحاد الديمقراطي في سوريا.

ما تجدر الاشارة إليه أن هذه المنظومة كان يجدر بها أن تعتمد في إدارة سوريا على ذراعها السوري حزب الاتحاد الديمقراطي المولود عام 2003 لهذا الغرض، لكن تحييده وإدارة شمال شرقي سوريا مباشرة من جانب أعضاء المكتب التنفيذي لمنظومة المجتمع الديمقراطي، وقادة الصف الأول في جبال قنديل، يعكس أهمية سوريا بالنسبة لها، وهي أهمية تفوق تركيا والعراق وإيران. تخوض تلك المنظومة في سوريا معركة وجود.

وهنا نشير إلى قيادة فعلية للمنظومة وليس مجرد دور توجيهي أو استشاري. القيادات الأربعة موجودون على الدوام في سوريا، كصلة وصل بين القيادة في جبال قنديل، وبقية الواجهات السياسية والعسكرية والخدمية والأمنية شمال شرقي سوريا، والتدخل يكون في أبسط القرارات، حتى أن تلك المنظومة انتدبت قياديا مهمته فًقط التدقيق في الحسابات والأموال، وفي هذه الجزئية دلالة بالغة الأهمية.

الرسالة الأولى

الاستطراد والتفنيد السابق يفيد بداية في طرح السؤال التالي: هل دعوة مظلوم عبدي، وإلهام أحمد، تركيا والائتلاف السوري إلى الحوار، هو موقف أصيل منهما؟ وهل أطلقا هذه الدعوات بمعرفة ورضى بل وتوجيه المرجعية السياسية والعسكرية المُنتدبة من جبال قنديل؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال، لا بد من التنويه إلى أن كلاً من مظلوم عبدي وإلهام أحمد لهما مكانتهما في الأوساط الكردية، لكنهما في حسابات منظومة المجتمع الديمقراطي هم مجرد قادة في الصف الثالث، وككل الأحزاب أو المنظومات الشمولية، هذه التراتبية وأساسها سنوات الخدمة ومكانها وليست المكانة أو الإنجازات أو المصلحة.

الإضاءة السابقة مبررها يأتي في سياق ما تردد في الآونة الأخيرة بشأن إزاحة واستبدال مظلوم عبدي من قيادة قوات سورية الديمقراطية، بالقيادي محمود برخودان، المعروف ميدانيا ب”الرش”.

هذا الاسم هو ما جعلني أتوقف عند تصريحات مظلوم عبدي، لأنني أعرف “الرش” شخصياً حين دخلت مع رجالي إلى عين العرب (كوباني) لمساندة أخوتنا الأكراد في صد هجوم داعش خريف 2014.

عرفت الرجل عن قرب، وأعترف أنه قائد عسكري جيد، لكنه شديد الولاء لجميل باييك، ولاء مطلق جعله إلى حد بعيد رجل راديكالي، ولم أجد له عذراً لموقفه المتطرف من العرب إلا حين لمست منه ذات التطرف اتجاه الكرد القادمين من العراق من قوات البشمركة للمؤازرة. أدركت حينها أن ولاء الرجل لمنظومة المجتمع الكردستاني تكاد تصل إلى درجة القداسة.

يمكن القول والحال هذه أن التغيير المشار إليه أعلاه إذا ما حصل فهو يدخل في إطار استبدال من صار ولاؤه مشكوكاً فيه برجل ولاؤه نقياً للمنظومة القابعة في جبال قنديل، وهذا مدخل أول للقول إن دعوة مظلوم عبدي وإلهام احمد للحوار، هي رسالة إلى الداخل الكردي وتحديداً إلى جمال باييك، في جبال قنديل.

بعبارة أدق، ربما يمكن القول إن معركة خفية تجري في كواليس القيادة الكردية في شمال شرقي سوريا، يقودها من جهة مظلوم عبدي، ومعه قادة من الكرد السوريين الأوجلانيين الوازنين، وفي الطرف الآخر جمال باييك وأزلامه في سوريا وتركيا.

مردّ ذلك أمران، الأول، الأفق المسدود الذي قادت منظمة المجتمع الديمقراطي أكراد سوريا إليه، فعلى الرغم من الدعم الأميركي والأوروبي الكبير، وامتلاك خزان سوريا المائي والنفطي والغذائي، إلا أن تلك السياسات حجمّت وأبعدت أكراد سوريا عن ملعب التسوية السياسية، بل وضعتهم في مهب الرياح بعد اعتماد سياسات من التذاكي عفا عنها الزمن مثل التحالف مع الجميع، وهي سياسة أدت الى خسارة الجميع، وترك أكراد سوريا لاحقاً لقمة سائغة لانتقام نظام الأسد.

الأمر الثاني، تحريض أميركي مباشر وغير مباشر في إبعاد منظومة المجتمع الديمقراطي، وهيمنة أوجلان بصوره وإفرازاته عن المشهد، بما يضمن إعادة التعاون التركي الأميركي إلى سكته، وهو المتوقع مع الإدارة الأميركية الجديدة.

الرسالة الثانية

محاولة انتزاع أكراد سوريا قرارهم من جبال قنديل وقادته الذين حولوا سوريا إلى ساحة لتصفية الحسابات مع تركيا، وردّ الجميل إلى نظام الأسد، تهدف إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من المكتسبات، وحماية ما يجب حمايته. ذلك لأن خسارة عفرين ولاحقا المناطق الممتدة بين رأس العين وتل أبيض، واستحالة عودتهما إلا في إطار تسويات إقليمية ودولية، أضعف موقف القيادة الكردية أمام حاضنتها، وجعلها هي لا القادة الفعليين في مرمى سهام الاتهامات الشعبية الكردية.

وعليه، فإن التقارب مع أنقرة لعله إما يقرّب أكراد سوريا من تسوية تعيدهم إلى إدارة المناطق التي خسروها أو تجنبهم على الأقل خسارة جديدة وخصوصاً في ظل الحديث المتزايد عن عملية عسكرية تركية جديدة تنطلق من الدرباسية.

صراع مظلوم عبدي الداخلي، إن صح التعبير، رهن بالموقف الأميركي، إن تخلت عنه واشنطن عاد كل شيء إلى نقطة الصفر، وجعلت أكراد سوريا خارج ملعب التسوية السياسية حتى على مستوى مقعد في اللجنة الدستورية، وجعلت التفاهم الأميركي-التركي شبه مستحيل، وسهّلت لاحقاً على نظام الأسد عودته الى هناك بالقوة، أو استعادته على الأقل رئة يحتاجها في ظل العقوبات المفروضة بفعل قانون قيصر، من خلال نفط وماء ومحطات وقمح وقطن شمال شرقي سوريا.

لكن إن صدقت واشنطن وعدها، فإن المهمة التالية بعد دعم موقف مظلوم عبدي وما يمثله يكون بإقناع أنقرة بتسوية تُبعد فيها خصمها العتيق عن حدودها الجنوبية وتعيده مرة أخرى إلى جبال قنديل، إضافة إلى إعطائها الضوء الأخضر للائتلاف السوري للجلوس إلى طاولة المفاوضات، هذا أيضاً سيدفع المجلس الوطني الكردي إلى دفع عجلة قيام مصالحة أو اتفاق كردي-كردي، ليكونا كياناً كردياً واحداً في إطار التسوية السورية الشاملة، وهذه المرحلة إن بدأت ستفرض تنازلات كبرى من جميع الأطراف، وعلى الصعيد الكردي، سبكون قطع العلاقات مع جبال قنديل، وإخراج المقاتلين الأجانب في مقدمة التنازلات المطلوبة.

الرسالة الثالثة

إن المتتبع عن كثب لسلوك القيادة الكردية، منذ عام 2012، لا يجد عناءً في إثبات العلاقة بين قادة “وحدات حماية الشعب” وبين دمشق. ولم يعد سراً وجود مكتب تمثيل في دمشق لهم، وآخر افتُتح قبل أعوام في حميميم في اللاذقية.

لكن هذه العلاقة ليس يسيراً تفسيرها، وخصوصاً من خلال منطق العمالة الدارج، إذ أن التعاون الكامل بينهما لم يخلو من بؤر التنافس، أو الصدام المؤجل، فكلاهما أي نظام الإدارة الذاتية ونظام الأسد استفادا من بعضهما من أجل تركيز المواجهة بالكامل ضد المعارضة المسلحة، وحواضن الثورة في عموم سوريا، لكن ماذا لو فرغ النظام من احتواء الثورة والمعارضة؟

تعددت في الآونة الأخيرة توجيه نظام الأسد تهديدات مبطنة الى القيادات الكردية، وهذه عقيدة نظام الأسد، هو لا يفهم منطق الحلفاء أو منطق تقاسم النفوذ، بمعنى أن وجهة قوات النظام في وقت قريب ستكون إلى القامشلي لرد الاعتبار أولاً، وثانياً لاستعادة مناطق تضم جلً ثروات سوريا، وهذا ما يعرفه قادة أكراد سوريا.

ومن هنا فإن إعلان الاستعداد للجلوس إلى طاولة مفاوضات مباشرة مع تركيا، تُسقط من يد موسكو إحدى أهم أوراقها التي جعلت آلياتها تسير في مناطق لم تكن لتحلم فيها، من المالكية إلى عين العرب، وهي رسالة تعيد خلط أوراق القوة والتوازنات، في إطار الانضمام إلى تسوية شاملة إن وجدت دعما دولياً، يعرف مظلوم عبدي وسواه، أن الخاسر الأكبر فيها سيكون بشار الأسد، ومن ورائه روسيا.

فهل يفعلها مظلوم عبدي وأمثاله من أكراد سوريا، أم أنه ينتحر على مذبح خدعة كبرى، تجعل أكراد سوريا أسرى نظام استبداد سيتجاوزه الزمن، يمتد من دمشق إلى جبال قنديل؟

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا