إدلب والمواجهة العسكرية المحتملة

لا يمكن الحديث عن مستقبل سورية من دون التطرق لمستقبل المنطقة الشمالية، وإدلب تحديداً، والتي تتباين الآراء حولها وفقاً لكل مرحلة، نتيجة عوامل عديدة، منها عدم وضوح اتفاق وقف إطلاق النار الموقع بين الجانبين، الروسي والتركي، في مارس/ آذار الماضي، وفي ظل الخطاب الرسمي السوري المدعوم إيرانياً، وأحياناً روسياً، تجاه هذه المنطقة تحديداً، والتصعيد العسكري المتقطع من النظام وحلفائه الطائفيين، وخصوصاً الإيرانيين، تجاه المنطقة، والتوتر العسكري والسياسي الروسي – التركي في ليبيا، ونتيجة التصعيد العسكري تجاه روسيا في إدلب من فصائل متطرّفة تحسب على المعارضة المسلحة، وبحكم سيطرة قوى متطرفة أو وجودها في إدلب، وأخيراً نتيجة ضبابية المشهد الدولي في سورية، وضعف التأثير السوري المعارض على مجريات الأمور.

وعليه، وقبل الحديث عن مستقبل الصراع في إدلب، لا بد من الإشارة إلى أن التوترات أو المواجهات العسكرية هي محصلة توترات وخلافات سياسية واقتصادية، وليس العكس، بالإضافة إلى هامشية الفعل السوري، داخلياً وخارجياً، وبالتالي هامشية القرار السوري الرسمي والمعارض في تصعيد المواجهة، أو حتى إنهائها. لذا فإن مستقبل الصراع السوري والتصعيد في إدلب اليوم هو حصيلة التوافقات أو الخلافات الدولية حول سورية، فإدلب اليوم بمثابة الحلقة الأضعف سورياً، ما يجعلها ميدان صراعٍ شبه وحيد، لفرض رؤية كل طرف حول مستقبل سورية الاقتصادي قبل السياسي. ونظراً إلى تباين التوجهات الدولية تجاه سورية، يصعب التفاؤل باستقرار أوضاع إدلب في الأمد المنظور، بل يمكن القول إننا مقبلون على مراحل متعددة من التصعيد العسكري، تتبعها توافقات هشة لوقف إطلاق النار بشكل متكرّر ومتتابع في الأمد المنظور، وهو ما يدفع ثمنه المدنيون السوريون المقيمون في إدلب للأسف. والواضح، استناداً إلى خريطة اللاعبين الدوليين الفاعلين في سورية ومصالحهم، مدى تباين التوجهات والمصالح بينهم، كالرؤية الأميركية والروسية والتركية والإيرانية، وبشكل أقل رؤية الكيان الصهيوني والاتحاد الأوروبي، وتحديداً ألمانيا وفرنسا، فلكل منهم رؤيته الخاصة ومصالحه الاقتصادية المتضاربة مع مصالح الآخرين أو جزء منهم، كالرغبة الأميركية في حماية كيان كردي في المنطقة الشرقية، يضمن لها التحكّم بمستقبل سورية والمنطقة سياسياً، ويتيح لها نهب الجزء الأكبر من خيرات البلد النفطية. في مقابل المصلحة التركية في تقويض أي إمكانية لزرع كيان كردي مناوئ لها، ذي سلطات سياسية وسيادية مستقلة، ولو نسبياً، الأمر الذي قد ينعكس على أمنها الوطني ووحدة أراضيها. في حين تطمح تركيا إلى فرض هيمنتها الاقتصادية على سورية، وتحويلها إلى ورقة تجارية رابحة في يد السلطة التركية، لأهمية موقع سورية وتركيا الجغرافي في أي عمليةٍ اقتصاديةٍ ترمي إلى ربط الاقتصاد الأوروبي بالاقتصادات العربية عموماً، وهو ما يتناقض مع المصلحة الروسية الاقتصادية من سورية التي يرغب الروس في السيطرة عليها، لعرقلة هذا الربط الاقتصادي العربي – الأوروبي، لا سيما في شقه النفطي السائل والغازي. وهو ما يتطلب سيطرة روسية مباشرة على أهم المنافذ البحرية والبرّية السورية؛ وهو ما تحقق الجزء الأكبر منه، بالتوازي مع سيطرة سياسية مطلقة على حكام سورية، ما يهدّد التطلعات التركية من ناحية، ويتناقض كلياً مع الرؤية الإيرانية التي تعتقد أن سورية بمثابة صمام الأمان الذي يضمن لها استمرار سيطرتها ونفوذها على كل من العراق ولبنان.

في المقابل، تخضع مجمل هذه القوى، ذات المصالح والرؤى المتناقضة بشأن سورية، وأحياناً حول قضايا وملفات أخرى خارجها، إلى جملةٍ من العوامل التي تكبح تفجر الصراع المباشر والحاسم فيما بينها، ولو مرحلياً، كطول الصراع في سورية، وتعاظم حجم الخسائر الناجمة عنه لكل منها، وتعدد المشكلات والصعوبات الذاتية لكل منها. وبحكم حاجة كل منهم للآخر من أجل بسط نفوذه في سورية، كحاجة روسيا وتركيا لتعاونهما معاً، نظراً إلى سيطرة كل منهما على جزء كبير ومهم من القوى السورية الفاعلة على الأرض، ونسبياً سيطرتهما على جزء من المجتمع السوري ذاته، وحاجة تركيا وروسيا لإيران، بحكم تغلغل مليشياتها وعناصرها داخل بنية الحكم في سورية، وداخل النسيج المجتمعي السوري، قسرياً أو طبيعياً (لا فرق). ونتيجة الحاجات الروسية والتركية والإيرانية إلى حد أدنى من القبول الأميركي القادر على ضرب أي توافق فيما بينهم، لما تملكه الولايات المتحدة من ملفات مهمة لكل منهم خارج سورية، ولتحكّمها بقرار قوات سورية الديمقراطية (قسد) وتوجهها. وأخيراً، نتيجة الخشية الكامنة لدى كل من الأطراف من تحالف الآخرين عليه، كتحالف تركي روسي أميركي لإخراج إيران، في مقابل خشية روسيا من تحالف تركي أميركي يستهدفها ويغرقها في مستنقع سوري لا نهاية له، وربما؛ وإن كان مستبعداً الآن؛ فلم لا نشهد تحالفاً روسياً صينياً اقتصادياً وعسكرياً قد يخرج أميركا من المعادلة السورية، وربما العراقية أيضاً، بتوافق إيراني وتركي، أو بتوافق أحدهما وإخراج الآخر أيضاً.

إذاً تخضع القوى المتصارعة في سورية لعوامل تدفعها إلى التصادم أحياناً، وإلى جملة من المخاوف والترهل الذاتي الذي يدفعها إلى التوافق على حد أدنى غالباً، ما ينعكس ميدانياً في توازنات هشة شبه مستقرّة، يحرص الجميع على عدم تفجّرها، تماماً كما يحرصون على عدم استقرارها وثباتها، ففقدان الثقة والتوافق فيما بينهم جميعاً، يقودني إلى الاعتقاد بصعوبة التوصل قريباً إلى توافق سياسي واقتصادي وأمني وعسكري مستقر ودائم في سورية عموماً، وفي إدلب خصوصاً. بل على العكس، تبدو صورة المشهد السوري، والإدلبي تحديداً، مقبلة على تصعيد عسكري شبه حتمي في الأسابيع أو الأشهر المقبلة، تصعيد قد لا يعكس صداماً روسياً أو إيرانياً – تركياً مباشراً قد يودي بالتوازن الهش، بقدر ما يعكس صداماً أسدياً – تركياً، كما شهدنا في بداية العام الجاري، صداماً تتحمل الأطراف الدولية الفاعلة مسؤوليته الكاملة قانونياً وسياسياً وجنائياً، ونتحمّل جميعاً مسؤوليته الوطنية، لعجزنا عن تأطير (وتنظيم) الحركة الثورية والإمكانات السورية، بما يحقق أهدافها الوطنية التي انطلقت من أجلها، التي ما زالت؛ أي تحقيق الأهداف الوطنية، طريق خلاص سورية الوحيد من الاستبداد والاحتلال والإجرام اليومي الذي نعيشه.

المصدر العربي.الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا