الأسديزم

لم يحدث في التاريخ المعاصر أن شاهدنا هاربين من القصف يحملون معهم شواهد قبور أحبابهم، ولم نقرأ ما هو مشابه في التاريخ القديم، فقط حدث هذا في سوريا. لم يحدث أيضاً أن قامت قوات بعد احتلالها لمنطقة مستهدَفة بنبش القبور، بل تصوير النبش والتفاخر به، على منوال ما فعل شبيحة الأسد. التسجيلات التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي استدعت من البعض استرجاع أحداث مشابهة في التاريخ البعيد، وهذا شديد السوء في حد ذاته لأنه يمنح السلوك الأسدي نسَباً قد يخفف من وطأة الجريمة، من دون انتباه إلى أن تلك الحوادث النادرة كانت ناشزة في زمنها.

مفجع أيضاً ما تلا الصدمة الأولى لنشر التسجيلات، عندما بادر البعض إلى التركيز على المنبت الطائفي للفاعل. الفاعل سنّي وليس علَويّاً، وعلينا أن نشكر القدر على ذلك، كأنما وهبنا مخرجاً للمسألة الطائفية! المفجع هو الانشغال بهذه الترّهات بما يؤدي إليه من تسخيف الجريمة الأصل، فوجود حوادث قديمة نادرة يلغي تاريخاً من سعي البشرية إلى الارتقاء بقواعد الحرب وقواعد السلم، والتركيز على المنبت الطائفي، في هذه الجريمة أو غيرها، يغيّب استثمار الأسدية في المسألة الطائفية كجانب من جوانبها لا غير، سواءً أتى التركيز لتجريم طائفة أو لتبرئتها لأن المستفيد في الحالتين هو من أوقع أصحاب الجدل في هذا المستوى.

نبش القبور، في خان السبل ومعرة النعمان بعد السيطرة عليهما مؤخراً، غير منقطع عن سياق الأسدية. سبق لميليشيات الأسد أن نبشت قبور ضحايا مجزرة الكيماوي في الغوطة الشرقية، وسبق لها ارتكاب الفعل نفسه في مدافن مدينة حلب ومدافن مدينة دير الزور. أيضاً، وفق تقارير دولية موثّقة، يعمد الأسد إلى حرق جثث المعتقلين المقتولين تحت التعذيب ضمن محارق أنشأها لهذا الغرض، كنوع من العقاب الجماعي لأهالي الضحايا الذين يُبلّغون بمقتل أبنائهم، من دون الحصول على الجثة ودفنها وحتى القيام بواجبات العزاء المعتادة.

في تمرين أقدم، قامت جرافات الأسد بطمر جثث مذبحة حماة وتسوية الأرض فوقها. قرابة ثلاثين ألفاً من أهالي الضحايا لا يعرفون أين هي جثث أحبائهم؛ هذا هو المغزى الأساسي الذي يتكرر يوماً بعد يوم، ومن الخطأ الشديد ردّ السلوك الأسدي البربري إلى رغبة في طمس معالم الجريمة. طمس معالم الجريمة سلوك يلجأ إليه مجرم يرى نفسه تحت طائلة المساءلة حاضراً أو مستقبلاً، والأسدية قائمة على يقين عميق مفاده إما الإفلات التام من العقاب أو السقوط التام، مع أرجحية للاحتمال الأول يعززها التواطؤ الدولي الذي عشناه في السنوات الأخيرة اللاحقة على الثورة.

إننا نكون أكثر أمانة في التوصيف عندما نرى في مطاردة الموتى، عبر نبش قبورهم أو إخفاء جثثهم أو إحراقها، نوعاً من استكمال الجريمة الأسدية لا من قبيل محاولة إخفائها. الهدف هو توسيع دائرة العقاب والقهر الجماعيين إلى أقصى ما يمكن. والنزوع الاستكمالي قد نرى نماذج له في الحقل الجنائي الشخصي مثل القاتل التسلسلي، لا في ما يُسمّى “الجريمة الكاملة” التي تكون غاية المجرم فيها تضليل العدالة. أما في الحقل السياسي الحديث فإن الجريمة التي تمت بصلة قرابة للأسدية هي محارق النازيين، وتلك المطاردات الممنهجة في حق اليهود والغجر. القرابة تتعين في حقل الإبادة التي يُراد لها أن تكون تامة، فلا يُكتفى بالقتل بل يُستتبع بحرق الجثة أو التنكيل بها، فضلاً عن العقاب الجماعي.

ما تمتاز به النازية عن الأسدية أنها كانت نظاماً بالمعنى التوتاليتاري للكلمة، بينما الثانية أقرب إلى خلطة من الاستبداد ومفاهيم الغزو القديمة بأسوأ أنواعها، لكن مع امتلاك تقنيات حديثة. في هذا المضمار تتقاطع الأسدية مع التنظيمات الإسلامية الأكثر تطرفاً، أي من حيث العقلية القديمة التي تعتمد تقنيات حديثة، لتأتي بعض نماذج السلوك المتطابقة بين الطرفين كنتيجة منطقية. تعاون الأسدية مع التنظيمات الجهادية كان بارزاً ومكشوفاً في أكثر من محطة، وذلك ما تعرفه جيداً أجهزة الاستخبارات الدولية، إلا أنه لم يدفع بالأسدية إلى قائمة الإرهاب الدولي على النحو الذي وصمت به تلك التنظيمات.

لأسباب تتعلق بمصالحه، قارب الغرب إرهاب التنظيمات الإسلامية على مستويات مختلفة، وإذا تغلبت المقاربة الرسمية الأمنية فإن مراكز أبحاث وأفراد اشتغلوا على محاولة فهم الظاهرة من زوايا عديدة. في المقابل، لدينا ندرة في محاولة الغرب فهم الأسدية، رغم ما تسببت به للغرب نفسه من كوارث على صعيد دعم الإرهاب، ومن ثم على صعيد سياسة الإبادة والتهجير التي ألقت بعدد ضخم من اللاجئين السوريين إلى أوروبا. الاستغراب الذي يبديه غربيون “من طبيب العيون الذي لم تردعه دراسته في إنكلترا عن ممارسة الإبادة” ينمّ عن نقص المعرفة الفادح، وكذلك هو حال غربيين يرون في سلوك الأسد سلوكاً همجياً اعتيادياً قائماً على ثقافة الشرق، مثلما يرون في التنظيمات الإسلامية المتطرفة تمثيلاً لجوهر الإسلام.

نقص المعرفة بالأسدية يتوازى مع عدم تجريمها، بخلاف تجريم الإرهاب الإسلامي ومحاولة فهمه معاً. لا نستطيع تبرير النقص فقط بتقاعس الغرب عن الاهتمام بما لا يمسه مباشرة، الإبادة الأسدية لا تُقارن بمجازر رواندا على سبيل المثال، فهناك حصلت المجازر بسرعة قياسية، ولم تكن القوى الدولية حاضرة، في حين تستمر الإبادة الأسدية منذ تسع سنوات على مرأى من القوى الدولية الموجودة على الأراضي السورية، أو تلك التي تطاولها آثار المجزرة. الحضور الدولي الشاهد على الإبادة يمنحها مغزى معاكساً لما حصل بعد القضاء على النازية، فكما نعلم كانت محاكمة النازية وتجريمها في صلب النظام الدولي المنبثق عن الحرب العالمية الثانية، وعدم تجريم الأسدية بمثابة انقضاض على المنجزات الحقوقية والمفهومية المستخلصة من درس النازية.

تقدّم لنا الأسدية كافة المعطيات لتُعرف عالمياً بالـAssadisme، مثلما صار لمصطلح Jihadisme حقله الدلالي المعروف عالمياً، وقبل ذلك مصطلح Nazisme. نحن بحاجة إلى توازي التعريف والتجريم الذي يوفّره إصطلاح من هذا النوع، كي لا نبقى في دائرة البرهنة على تجريم الأسدية. لا يقل إلحاحاً عن ذلك أن تتفق غالبية السوريين على الحقل الدلالي الذي تعنيه كلمة الأسدية، فلا يحضر الاختلاف حول فهمها وتأويلها مع كل مجزرة، أو مع كل قبر يُنبش أو جثة قتيل تُحرق.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا