الكرنفال الانتخابي للرئيس الحاكم بأمر غيره

ما يُستشف من المعطيات والمؤشرات الدولية والإقليمية، ومن الوقائع التي نشاهدها على الأرض، ومن تصريحات النظام في سورية وممارساته، ومن اصطفافات هيئات المعارضة الرسمية ومنصّاتها، أنّ لا حلّ سياسياً قريباً للموضوع السوري، بل لا بوادر لإمكانية الوصول إلى حلٍّ ما في المدى المنظور، فالولايات المتحدة تبدو غير مكترثة به، إلّا من زاوية ارتباطه بالموضوع العراقي، وأهميته بالنسبة إلى الأمن الإسرائيلي. هذا بالإضافة إلى إمكانية استخدام الورقة السورية في موضوع العلاقة المستقبلية مع كلّ من روسيا وتركيا؛ مع الأخذ بالاعتبار موضوع الملف النووي الإيراني الذي من الواضح أنّه من ضمن أولويات إدارة الرئيس جو بايدن، هذا على الرغم من لعبة الشدّ والجذب التي نشهدها حالياً بين الجانبين، الأميركي والإيراني.

أما الروس، فهم في عجلةٍ من أمرهم، يسعون إلى البناء على نتائج تدخلهم العسكري، لتكريس نفوذهم الاستراتيجي في منطقة شرقي المتوسط؛ ونسج العلاقات مع مختلف الأطراف، تأسيساً لبقاء طويل الأمد، فهم قد تحولوا إلى عامل مؤثر في الشؤون الداخلية السورية، سواء من جهة النظام أم من جهة المعارضة بمختلف توجهاتها. كما أنهم ينسجون العلاقات مع الأوساط الشعبية المتردّدة التي فقدت الأمل بالمستقبل، وتعاني، في الوقت ذاته، من أزمة اقتصادية خانقة، تهدّدهم في أبسط مقومات العيش. وهذا ما يدفع بعضهم إلى الانخراط ضمن المليشيات التي يشرف عليها الروس من ناحية، والإيرانيون من ناحية ثانية، بغية تأمين مصدر للدخل، يمكّنهم من إعالة أسرهم المغلوبة على أمرها.

هذا في حين تسعى كلّ من إيران وتركيا إلى بلوغ صيغةٍ من الربط العضوي البنيوي، لدمج المناطق والأوساط السورية الخاضعة لنفوذهما ضمن إطار مشاريعهما الإقليمية الراهنة والمستقبلية. وقد دفع السوريون، وما زالوا يدفعون، الكثير ثمناً للمشروع التوسّعي الإيراني الذي تنعكس نتائجه السلبية في واقع دول عدة من دول المنطقة. ويُشار هنا بصورة خاصة إلى كلّ من سورية ولبنان والعراق واليمن.

أما على صعيد العامل الداخلي السوري، خارج دائرة النظام، فلا توجد بوادر مشجّعة توحي بقرب الوصول إلى توافقاتٍ مطلوبة، الفرعية منها والعامة. هذا على الرغم من كثرة المشاريع والإعلانات والتحرّكات؛ ووصول الجميع إلى قناعةٍ بأهمية وضرورة توحيد الرؤى والمواقف للوصول إلى برنامج وطني جامع، يطمئن كلّ السوريين؛ وإنّما على النقيض من ذلك نرى أنّ بعضهم ما زال يصرّ على المفاهيم والتوجهات التي ثبت في الواقع العملي عدم جدواها، بل تأكد إسهامها في تفرقة السوريين، وتحويل بلادهم إلى ساحةٍ لتجريب مشاريع وأسلحة الآخرين.

وفي هذه الأجواء، وكما كان متوقعاً، أعلن النظام عن انتخابات التجديد لنفسه بدعم من روسيا وإيران، ولكلّ منهما حساباتها الخاصة التي قد تتقاطع أحياناً، وتفترق أحياناً أخرى. وفي المحصلة النهائية، كانتا، وما زالتا، إلى جانب النظام، وقد مكّنتاه من البقاء، ليكون واجهة رسمية، تشرعن تدخلاتهما وفتكهما بالسوريين، وتهجيرهم وتدمير مدنهم وبلداتهم، والاستحواذ على موارد بلدهم، والتغلغل إلى عمق المؤسسات السيادية، والتحكم بسكنات (وحركات) رأس النظام الذي ما زال يصر على انتصاره المزعوم في مواجهة المؤامرة الكونية، وهو الانتصار الذي كان على أشلاء السوريين وتطلعاتهم ومستقبل شبابهم وأجيالهم المقبلة.

وعلى الرغم من المواقف التي نسمعها هنا وهناك، سواء من الأميركان أو الأوروبيين، مع ضبابية لافتة في مواقف دول عربية كثيرة؛ بل هناك من دعا إلى ضرورة الانفتاح على النظام، وأصر على ذلك، وعلى إعادته إلى النظام الرسمي العربي علناً، إلّا أنّ تلك المواقف لا تخرج عن نطاق استمرارية عقلية إدارة الأزمة، فالمندوب الأممي، غير بيدرسون، أعلن، في إحاطته أخيراً أمام مجلس الأمن، أنّ هذه الانتخابات لا تدخل ضمن دائرة مهتمه التي قد كُلف بها من الأمم المتحدة، وهي مهمةٌ تتمثل في مساعدة السوريين في كتابة دستور يوحّدهم، وإجراء الانتخابات بناء على ذلك الدستور، وبإشراف أممي. وهي المهمة التي حدّدها مبعوث الأمم المتحدة السابق، ستيفان دي ميستورا كما نعلم، وبالتفاهم مع القوى الدولية المعنية بالملف السوري، وذلك بعدما نجح، وبالتناغم مع المساعي الروسية، في إخراج موضوع الهيئة الانتقالية من دائرة المفاوضات؛ مع أنّ مشروع الحلّ الأممي الذي وضع أسسه كوفي عنان يتمحور أصلاً حول تلك الهيئة، وقد أكد بيان جنيف1 عام 2012 ذلك. وبذلك، تبنّى دي ميستورا، في واقع الحال، نتائج مسار أستانة، واجتماع سوتشي، حتى ولو من دون الإعلان عن ذلك بصورة رسمية. كما أنّ المندوبة الأميركية في مجلس الأمن، ليندا توماس غيرينفيلد، أعلنت عن عدم اعتراف بلادها بتلك الانتخابات، ودعت، في الوقت ذاته، إلى مساعدة السوريين، وشدّدت على أهمية موضوع المساعدات الإنسانية، وضرورة الإبقاء على معبر باب الهوى. والأمر ذاته بالنسبة إلى المواقف الأوروبية.

مع ذلك كله، ستجرى الانتخابات الرئاسية في سورية في الوقت المحدد لها بدعم وتغطية روسيين، وسيتم التجديد لرأس النظام بآلياتٍ مافياوية، يسخر أصحابها من جميع المبادئ الديمقراطية، بل يسخرون من السوريين، جميع السوريين؛ إن لم نقل “يحتقرونهم” ويعتبرونهم مجرّد كتلة هلامية، المطلوب منها الطاعة، وإعلان “المبايعة الجمهورية” عبر انتخاباتٍ هزليةٍ تضليلية، اعتاد عليها السوريون منذ سيطرة حافظ الأسد على الحكم في بداية السبعينات، وهي الانتخابات الاستفتائية التي كانت نسبة الموافقين فيها لصالح النظام تبلغ دائماً، وفق التخريجات الرسمية، 99.99%، هذا في حين أنّ نظام صدام حسين قد حطّم لاحقاً هذا الرقم القياسي لـ “يفوز” بنسبة 100%.

واليوم يبدو أنّ هناك رتوشاً تزيينية قد أجريت بغرض تسويق الوجه القبيح للعملية برمتها. لكنّ ما يجري في هذا السياق لا يخرج واقع الأمر عن نطاق الاستهتار بالسوريين، واستغلال المواقف الدولية والإقليمية التي من الواضح أنّ معاناة السوريين وتطلعاتهم لم تعد من أولوياتها. كلّ ما هنالك مجرّد تصريحات إعلامية، الغاية منها تبرئة الذات، والحرص على التحكّم بالموضوع السوري، ليكون ورقة من بين أوراق الضغط والمساومة في اللعبة الأممية الكبرى التي تتوالى فصولها في مناطق مختلفة من العالم؛ مع بوادر حرب باردة جديدة، من المرجح أن تكون الصين فيها طرفاً، إلى جانب الروس، في مواجهة الولايات المتحدة وحليفاتها في الغرب، وجنوب شرقي آسيا، والقوى الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً إسرائيل التي تظل العامل المؤثر في الموضوع السوري، وهي اليوم على تواصل مستمر مع الروس والأميركان بخصوص الواقع الحالي، والترتيبات المستقبلية في سورية، لا سيما من جهة الوجود الإيراني والمخاطر التي يمثلها، والمآلات التي قد تكون.

والتزاماً من روسيا بتعهداتها الدولية التي سمحت لها بالدخول العسكري إلى جانب النظام في سورية عام 2015، يلاحظ أنّها حريصةٌ، من وقت إلى آخر، على تعزيز التواصل بينها وبين إسرائيل. وهناك تسريبات عن وساطة روسية في ترتيب لقاءات مباشرة بين المسؤولين الإسرائيليين ومسؤولي النظام، وهذا ليس مستبعداً؛ بل مرجّح، طالما أنّه يحقق للأخير فرصة البقاء، فهذا النظام الذي هجّر، من أجل المحافظة على سلطته، أكثر من نصف السوريين، وتسبّب في قتل نحو مليون إنسان، فضلاً عن اعتقال وتغييب مئات الآلاف، وتدمير البلد، مستعدٌّ لفعل أي شيء، فهو قد وصل إلى مرحلة اللاعودة مع السوريين، وهو يدرك أن جميع السوريين، بمن فيهم من يُحسبون عليه قد باتوا على قناعةٍ بأنه يجسّد أساس الداء الذي لن يُعالج طالما هو قائم.

الانتخابات ستجرى، وسيُعلن “فوز” بشار الأسد، وستظل وضعية مناطق النفوذ على حالها، بل ربما تصبح خلال سنوات من حكم بشار حالة تقسيم عملية، حتى وإن لم يُعترف بها رسمياً على المستويين، الدولي والوطني. وأمر من هذا القبيل سيكون منحىً خطيراً ينذر بتهديد وجودي لسورية، شعباً وأرضاً، إذا ما استمرّت الأوضاع الراهنة بأبعادها المختلفة على حالها، خصوصاً من جهة النخب السورية التي يبدو أنها قد شُلّت في مواجهة العصبيات الطائفية والقومية والمناطقية، وحتى الأيديولوجية، التي أسهم النظام أكثر من نصف قرن في خلقها، ورعايتها، واستخدامها أداة للتحكّم بالسوريين، وجعلهم مجرّد جسم سلبي ينتظر ما سيُفرض عليه، وسيُقرّر بشأنه.

وحتى لا تهيمن علينا النزعة السوداوية، نشير هنا إلى الإجماع السوري على التعبير عن الحزن الوطني برحيل ميشيل كيلو، وهو الإجماع الذي جسّد توجهاً سورياً وطنياً يؤكد أهمية العيش المشترك، واحترام الآخر المختلف، والتوافق على مشروع عام يكون بالجميع وللجميع، ومن دون استثناء… هل سنتمكن من توظيف هذا الحس السليم لصالح ما يمكّن السوريين من النهوض؟ أم أنّه سيظل مجرد حالةٍ عاطفيةٍ مشروعة، سرعان ما ستغطي عليها التباينات والخلافات والتناغمات مع مشاريع الآخرين؟ هل سنرتقي إلى مستوى ما يحترم تضحيات السوريين وتطلعاتهم؟ هذا هو السؤال الأهم.

المصدر العربي الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا