المعارضة السورية وهذه الحقوق التركية

كثيرون الذين حذّروا قوى المعارضة السورية من خطورة المرحلة المقبلة على مسار الثورة وتوجهاتها. كانت هناك محاولات نحو الإصلاح والتجديد، لكنها لم تكن كافية، وهي لم تطمئن القواعد الشعبية والكوادر في الداخل السوري وخارجه.

ضرورات تغيير الواقع المأزوم في صفوف الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية مطلب قديم جديد، سمعناه في أكثر من جلسة نقاش ومؤتمر وندوة. أزمة التمثيل وقيادة المشروع طرحتهما أكثر من جهة سورية وإقليمية. وكانت المشكلة في إعادة قراءة وصياغة استراتيجية تحرّك قوى المعارضة السورية أولا، والقيادات القادرة على تنفيذ هذه الاستراتيجية الجديدة ثانياً.

أكثر ما سمعناه من قيادات المعارضة السورية في “الائتلاف”، قبل أن نسمعه من القيادات والكوادر والناشطين من خارج مراكز القيادة، كان يلتقي عند أن “المؤسَّسات اليوم في أزمة عميقة، سواء على مستوى التمثيل الشعبي، أو حتى على مستوى المهام الوظيفية التي أنشِئَت من أجلِها”، والمطلوب هو “تجاوز حالة الجمود التي يعاني منها الائتلاف على مستوى التمثيل والرؤية وآلياتِ العمل والتعاونِ والاستقلالية”.

عجزت قوى المعارضة عن طرح بدائل سياسية وأمنية في مواجهة حقول الألغام التي زرعتها روسيا وإيران من أجل حماية النظام ومنع الاقتراب منه، وهي كانت تتطلب استراتيجية وردا من العيار والوزن نفسيهما باتجاه تسجيل اختراق ميداني وسياسي وشعبي، لكن ذلك لم يحدُث. فشلت في الخروج من لعبة الكراسي وتقاسم النفوذ بإجماع كثيرين، رغم أنها كانت تعرف محدودية خياراتها. رجحت قبول تسليم سلة البيض لأكثر من لاعب إقليمي ودولي ليقود المشهد نيابة عنها، بدل تبني سياسة “الأسعار لن تتراجع علينا زيادة مستوى الدخل” و”الكل وسط سفينة واحدة، لكن السفينة وسط الرياح والعواصف”، وأنّ المطلوب هو رمي الأعباء الزائدة من أجل الوصول إلى بر الأمان.

يقول رئيس “الائتلاف”، سالم المسلط، إنه “لم تبق سوى دولتين أو ثلاث دول تقف مع المعارضة، تركيا وقطر والسعودية”. ويضيف: “تركيا قدّمت أكثر من الدعم واحتضان اللاجئين، وقدّمت شهداء على أرض سورية، ولا أحد يمكن أن ينساها. ونحن حريصون على تعزيز العلاقة وتقويتها معها، باعتبارها حليفا وشريكا، إضافة إلى تعزيز العلاقة مع الدول العربية”.

وكأن بعض قيادات المعارضة السورية تسمع، للمرة الأولى، عن حجم التنسيق مع الأتراك ومطلب أنقرة إجراء إصلاحات داخل “الائتلاف” انسجاما مع المتغيرات المحلية والإقليمية في التعامل مع الملف السوري، أو كأن هذه القيادات لا تعرف حجم تداخل المصالح والعلاقات، وما الذي قدمته تركيا التزاما بدعم الثورة من جهة، وحماية مصالحها وأمنها هي الأخرى في الملف من جهة ثانية. لم نتابع في وسائل الإعلام التركية يوما أي انتقاد سياسي رسمي لقوى المعارضة السورية وطريقة أدائها وخياراتها، وهو ما لن يحدث، حتى ولو حاول بعض الغاضبين والناقمين والمتربصين إقحام تركيا في نقاش من هذا النوع. لكن القيادات التركية لن تتردّد في قول ما عندها باتجاه ضرورات فتح الطريق أمام عملية “إعادة تموضع” لا بد منها داخل “الائتلاف”، وتواكب متطلبات المرحلة المقبلة وضروراتها، على ضوء المتغيرات والمعطيات المحلية والإقليمية الجديدة التي بدأت تركيا في تنفيذها، وهذا من أبسط حقوقها.

لا يجوز هنا الخلط بين حاجة مؤسسات المعارضة السورية لإجراء إصلاحات في بنيتها بقرار وطني ذاتي ووجود مسار تركي عربي جديد، يعني إسرائيل أيضا، يريد إنهاء إطالة عمر الأزمة السورية أكثر من ذلك. وكانت تركيا قد حدّدت مجموعة من الأهداف والمرتكزات في سياستها السورية، مع انطلاق الثورة، بينها الدعم العلني الواضح لقوى المعارضة المنتفضة التي ستطيح النظام خلال أشهر قليلة، وفتح الأبواب باكراً أمام الوافدين من اللاجئين، لأن إقامتهم ستكون قصيرة، وسيعودون إلى بلادهم وأراضيهم لقيادة المرحلة المقبلة شركاء وحلفاء لها في المنطقة.

عدّلت أنقرة من سياساتها السورية أكثر من مرة، ولأكثر من سبب داخلي وإقليمي، وطرحت أفكاراً ومشاريع جديدة، عادت وتخلت عنها أمام تدهور علاقاتها وتحالفاتها مع شركاء لها في الملف السوري. تغيرت أولويات أنقرة في سورية بالمقارنة مع ما كانت تقوله وتريده عند انطلاق الثورة، من دعم علني واضح لحراك الثوار قبل 11 عاماً بهدف إسقاط نظام الأسد وبناء دولة سورية ديمقراطية حديثة، إلى أنّنا “نحن ملزمون بتوسيع نطاق العمليات العسكرية التركية هناك، لغمس خنجر في قلب الإرهاب”. أربع عمليات عسكرية في الشمال السوري وانتشار عسكري، بهدف منع خطط الشرذمة والتقسيم وتهديد أمنها ومحاربة التنظيمات الإرهابية وقطع الطريق على لعب ورقة اللجوء ضدها. المواجهات كانت، شئنا أم أبينا، مع النظام وحلفائه الروس والإيرانيين و”قوات سوريا الديمقراطية” وداعمها الأميركي.

تريد حكومة “العدالة والتنمية” اليوم إنجاز اختراق حقيقي في ملف الأزمة السورية قبل التوجه الى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مطلع صيف العام المقبل، وهي تريد من حليفها السوري المعارض أن يستعد لهذه المرحلة التي تتطلب إنجاز اختراق سياسي في الملف، وهذا من حقها أيضاً. لكن، لا يمكن الخلط بين ذهاب أنقرة وراء مراجعة سياستها السورية في الطروحات والأسلوب والنهج والأداء، وربما إعادة تشكيل الفريق الذي يتولى الملف نتيجة المتطلبات السياسية والإقليمية، وتسريباتٍ عن اتصالاتٍ تدور على خط أنقرة – دمشق واحتمال التطبيع مع النظام وسيناريوهات تخلي تركيا عن دعمها حليفها السوري منذ عقد.

المطالبة بالإصلاح والتجديد في صفوف قوى المعارضة السورية ومؤسساتها حقٌّ مشروع لكل ثائر، لكن المهم ألا تنتقل الثورة السورية على نظام الأسد إلى ثورة جانبية على شركاء الأمس وحلفائه في “الائتلاف”، تحت ذريعة رفض التعديلات والتغييرات التي أقرّتها أخيرا قيادات “الائتلاف”. الاحتكام إلى لغة العقل والاعتدال والبقاء خلال اتخاذ القرارات وتطبيقها في إطار المعايير الديمقراطية المصحوبة بكثير من الشفافية ومقاييس الكفاءة والخبرة، وقبول ما تقوله القواعد الشعبية والكوادر الفاعلة، هو ما ينبغي أن يكون المرجع الحقيقي للحراك الحاصل داخل مؤسّسات المعارضة السورية. الانتقادات والاعتراضات ورفض ما يجري شيء، ونشر بيانات التخوين والتهديد والتحضير لإعلان الحرب شيء آخر. لا يسمح المسار بغير العودة إلى روح الحراك الذي انطلق قبل أكثر من عقد تحت شعارات الحرية والعدالة والديمقراطية والانتقال السلمي للسلطة. ورغبة بعضهم في التصعيد والتحدّي لن تخدم سوى أعداء الثورة والمتربصين بها.

حكاية الشاب الخجول المتردّد المعجب بجارته معروفة. هو لم يكن يملك الجرأة لمصارحتها بذلك، رغم أنّها ظلت تنتظر المبادرة أسابيع. خيب الشاب أملها فجاءت تقرع بابه لتسأله إمكانية ائتمانه على قطتها ساعات، لأنّها تعرّفت إلى شاب تريد العشاء معه في الخارج. تريد قوى المعارضة السورية، لكنّها تتردّد في أخذ زمام المبادرة، رغم أنّها تعرف أنّه لا فرص كثيرة أمامها. فرصتها اليوم ربما هي الاستعانة بتجربة طائر الفينيق، والانبعاث من رمادها مجدّداً.

المصدر العربي.الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا