بوتين يهنئ إيمان وبشار يؤبّن قاسم سليماني

تغيبت وكالة أنباء الأسد “سانا” عن تغطية حدث شديد الأهمية؛ إزاحة الستار عن نصب تذكاري لقاسم سليماني قائد فيلق القدس، في الذكرى الثانية لاغتياله. أهالي نُبُّل والزهراء في ريف حلب أدوا واجبهم تجاه شهيدهم على أكمل وجه، ودشّنوا النصب المقام في “روضة الشهداء” بمراسم عسكرية، بعد أن أقاموا مجلساً تأبينياً للقتيل. وكالة أنباء “مهر” الإيرانية غطّت الحدث، متواجدةً حيث تغيبت سانا، وعنها نقل موقع RT بالعربية الخبرَ، رغم أن الصور القادمة من “روضة الشهداء” خالية من العلم الروسي ومكتفية بالعلم الإيراني وعلم حزب الله وإلى جوارهما العلم الذي بات يرمز إلى سلطة الأسد.

أول ما يمكن ملاحظته أن تأبين سليماني في الذكرى الثانية لاغتياله يتفوق بزخمه على تأبينه في الذكرى الأولى، فقبل سنة من الآن كان ترامب “الذي أعطى الأمر بتنفيذ الاغتيال” يقضي أيامه الأخيرة في البيت الأبيض، وكان هناك حرص من المحور الإيراني على عدم استفزازه في الأيام الأخيرة لرئاسته. التعويض هذه السنة بإحياء الذكرى الثانية للاغتيال يُقدَّم كانتصار لطهران، وأول ما يوحي به الانتصار أن حكام إيران فازوا بالانتخابات الأمريكية، ويحتفلون مطمئني البال إلى خليفة ترامب.

ولإحياء ذكرى سليماني رمزية واضحة في الظروف الحالية، فقد كان عرّاب التمدد الإيراني من اليمن وصولاً إلى غزة، مروراً بالعرق وسوريا ولبنان. من خلال جغرافيا النفوذ الإيراني التي كان سليماني بطل تحقيقها، تريد طهران القول أنها مستمرة في إنجاز مشروعها، وأنه ليس موضع مقايضة في أية مفاوضات قائمة أو مقبلة.

يُذكر أنه، بفضل انتصارات سليماني، أعلن أكثر من مسؤول إيراني عن أن سوريا صارت المحافظة الإيرانية رقم 35، بعد العراق ولبنان واليمن. هذا يجعل من تأبين سليماني قبل يومين في دمشق حدثاً إيرانياً داخلياً، لكن إخراج الحدث الذي استضافته “مكتبة الأسد” لا يخلو من لباقات البروتوكول إذ تلقي بثينة شعبان كلمة بشار الأسد بوصفه رئيساً، لا محافظاً بموجب الإعلانات الإيرانية عن انتصارات سليماني. ومظاهر البروتوكول تجيز لبشار التحدث في رسالته كشريك، بينما كعادته، وفي كل كلمة له وفي كل فرصة للتحدث، يتهم معارضيه بأنهم عملاء ومرتزقة بموجب أهم معادلة أرستها الإمبريالية “وفق كلمته” وهي: كل إنسان له ثمن.

لسنا في وارد الإسهاب في الحديث عن هوس بشار بوصم خصومه بالمرتزقة بقدر إسهابه في هذا التفصيل، فالأهم أنه يوجّه كلمة في الذكرى، وأن تتلوها مستشارته الخاصة بثينة شعبان، وأن يكون النص مكرَّساً بشكل أساسي لإيصال رسالة مفادها التأكيد على انضوائه في المحور الإيراني. هو، بلا لبس، يرى الاستمرار بنهج سليماني واجباً ينبغي الإخلاص له والعمل على استمراره وخاصة “في إرساء وتطوير العلاقات بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والعراق وسورية ولبنان واليمن وفلسطين لأنّ العمل على تعزيز التواصل والتناغم والتكامل في هذا المحور يشكّل أرضية صلبة تزيد كلّ بلدانه وأبنائه عزّة وقوّة وقدرة على مواجهة التحديات الداخلية والإقليمية والدولية وتعود حكماً بالفائدة والرّخاء على كلّ شعوب هذا المحور”. هو يكرر في العبارة السابقة كلمة “محور” مرتين، معدِّداً بنجابةٍ المنضوين فيه، ما يجعل إشارتنا إلى المحور الإيراني بعيدة عن منطق الاتهام.

في تأكيده على ترابط المحور الإيراني، لم يكن بشار أميناً فقط لذكرى “القائد” سليماني، هو يوجه رسالة إلى “أشقائه” العرب قبل الإسرائيلي. فهو يكذّب ظنون القيادات العربية التي ترى في الانفتاح عليه وسيلة لإبعاده عن طهران، ويريد الانفتاح “وخاصة فوائده المالية” مقروناً بانفتاح تلك القيادات على طهران والإقرار لها بملكية محافظاتها الأربع، العراق ولبنان وسوريا واليمن، وفوقهم غزة. لإسرائيل نصيب من الرسالة هو القول بأن استهدافها الوجود الإيراني في سوريا بلا طائل، فطهران تهيمن على البلد بدءاً من أعلى سلطة فيه وصولاً إلى بلدتين في الشمال القصيّ احتفلتا بتدشين نصب لسليماني، سيّان إن فعلتا بعلْم بشار أو من دونه.

وتوقيت الرسائل المرتبطة بإحياء ذكرى سليماني مرتبط بلا شك بمفاوضات فيينا النووية، لتؤكد من خلاله طهران على أن نفوذها الإقليمي غير قابل للمساومة، بل إنها تريد قبض ثمن إقليمي فوق رفع العقوبات الاقتصادية لقاء ترتيبات تتعلق بوقف تخصيبها اليورانيوم. وكانت قد حصلت على صفقة مشابهة مع إدارة أوباما، أي عندما كان برنامجها النووي في عتبة أدنى بكثير مما وصل إليه منذ دخول بايدن إلى البيت الأبيض. إلا أنه سيكون من الخطأ الاعتقاد بأن بشار الأسد ينطق فقط باسم طهران، أي فقط بمنطق العمالة الذي يتهم به غيره من السوريين، فالأقرب إلى الواقع كونه يجد مصلحته “التي لا مصلحة توازيها” في انضوائه ضمن المحور الإيراني، وهو مطمئن إلى صدق الدعم الإيراني بما يفوق اطمئنانه إلى المافيا الروسية.

ينوّه بشار في تأبينه سليماني بالعدوى الحميدة التي كان ينشرها، والمقصود بها عشرات آلاف المقاتلين الذين أتى بهم الحرس الثوري، وأولئك الذين جنّدهم من السوريين. هؤلاء، حسب قوله، سيتصدون للإمبريالية الغربية المعادية للعرب منذ ألف عام، وهذا وجه خطورة سليماني التي أدركها الغرب. مَن يتحدث عن الخطر الغربي التاريخي المقيم ليس البغدادي ولا الجولاني، هو الرئيس “المودرن” الذي درس في لندن، وهو على أية حال لا يبتعد في ذلك عن بوتين المعادي للقيم الغربية. وعلى صعيد أعمّ، لا يزعج بوتين إخلاصُ بشار لطهران، إلا عندما تتضارب المصالح الروسية والإيرانية في سوريا، والمبالغات الإعلامية عن تضاربها أكبر بكثير من الحجم الفعلي المحدود.

قد ينتقص من مزايا القتيل أن عقيدته لم تسمح له بترك إرث من الاستعراض الإعلامي على منوال الرسائل المتبادلة بين بوتين والطفلة السورية إيمان علي، وهي قد سبق لها وصفه تحبباً بـ”أبو علي بوتين”. لم تتخلف إيمان عن معايدة بوتين لمناسبة قدوم السنة الجديدة، وهو بدوره هنأها متمنياً السلام والازدهار للأطفال السوريين، إنما على النحو الذي يوضّحه هذا الاقتباس من رسالته: “وإذا كان هناك أطفال صغار ولكن شجعان مثلك ومستعدون للعمل من أجل السلام والأمن لوطنهم ليصبحوا جنوداً وممرضات لكان من الأسهل علينا جميعا مقاومة الشر والتهديدات المختلفة”.

هكذا، لا يرى بوتين في أطفال سوريين أفضل من أن يكونوا مشروع جنود وممرضات، وفي هذه الأمنية أيضاً استكمال لمشروع قاسم سليماني وإن أوصله الجنود الروس إلى الطفلة إيمان بثياب بابا نويل.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا