عشرون عاماً على حكم بشار الأسد

خلال شهر تموز/يوليو قبل عشرين عاماً، بدأ حكم بشار الأسد لسوريا. ففي العاشر من هذا الشهر لعام 2000، تم الإعلان عن فوز بشار الأسد، كمرشح أوحد، في الاستفتاء الرئاسي والذي حصل فيه على نسبة 97.29 بالمائة من الأصوات حسب المصادر الرسمية، ليستكمل بذلك حلقات التوريث الذي بدأها الأب مباشرة بعيد وفاة الابن الأكبر باسل. وبعد سبعة أيام من الاستفتاء، ألقى الحاكم الجديد خطاب “القسم” الشهير أمام مايسمى بمجلس الشعب صاحب الرقم القياسي عالمياً في تعديل الدستور—لم تستمر عملية التعديل أكثر من عشرين دقيقة- مزيلاً بذلك عقبة قانونية على طريق اعتلاء الولد للحكم. وبذا يكون بشار قد أكمل عشرين عاماً كحاكم لسوريا، وهي فترة ليست قصيرة، إذ تعادل خمس دورات رئاسية على مقاييس الدول التي تقتصر الدورة الرئاسية فيها  على أربع سنوات. ففي أثناء هذه الفترة يكون الأسد قد عاصر أربعة من الرؤوساء الأمريكان، وهم بيل كلينتون، وجورج بوش (الابن)، وباراك أوباما، وأخيراً دونالد ترامب. وعلى الرغم من صعوبة تقييم فترة العشرين عاماً في مراجعة مقتضبة، تحاول هذه المقالة الوقوف على محطات رئيسية من حكم الأسد، بتحديد أولوياته، وتفسير قدرته على  الاستمرار في الحفاظ على العرش الموروث، على الرغم من فقر تجربته، واضطراب شخصيته، ومحدودية محاكماته العقلية.

لعل أولى محطات حكم بشار هي فترة ماعُرف “بربيع دمشق”، وهي لحظة لم تدم إلا أشهر معدودة، انطلقت بفعل رحيل الدكتاتور الأب، وأجواء تفاؤل بالقادم الجديد، غذاها بوعود غامضة حول الإصلاح والتطوير. انتهت هذه المرحلة بسجن عدد من النشطاء الذين حاولوا امتحان ادعاءات العهد الجديد. الدرس الأهم في هذه التجربة أن النظام لم يكن بوارد تقديم أي تغيير حقيقي، وأن أركانه استطاعوا إقناع الحاكم الجديد بخطورة أي عملية إصلاحية حقيقة، قد تودي بهم وبزعيمهم في مصائر مشابهة للاتحاد السوفيتي، في عهد ميخائيل غورباتشيف.

المرحلة الثانية من حكم بشار يمكن وصمها بمرحلة التقوقع على الذات، وإحكام الإمساك بمراكز القوة في النظام السياسي، من خلال استغلال تركيبته التي تقود كل الخيوط فيها إلى الجالس على كرسي الرئاسة، والتخلص من بعض مساعدي الأب، ممن عرفوا “بالحرس القديم”، واستبدالهم بدماء جديدة من عين الخلفية السياسية والطائفية والعائلية والطبقية للمستفيدين من النظام السابق. لقد ترافق مع هذه الفترة تحديات خارجية كان من ضمنها تصاعد وتيرة الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والحرب على الإرهاب، بعيد الهجمات التي تعرضت لها الولايات المتحدة، وكان من أهم تطبيقاتها مغامرة غزو العراق. لقد عززت هذه التحديات قناعة رأس النظام بخطورة التحديات الخارجية، وزودته بتبريرات كافية لإهمال التعاطي مع الإشكاليات الداخلية المتراكمة في كافة المجالات. شكلت هذه الأجواء قناعة لدى بشار بضرورة المحافظة على الأوضاع الراهنة على مختلف الأصعدة، بما في ذلك تمسكه بالتمديد لفترة الرئيس اللبناني الموالي، إميل لحود. هذا القرار كان السبب المباشر لتطورات قادت إلى عملية اغتيال رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري. ومع أن التحقيقات الأولية أشارت إلى الدور المحوري للنظام السوري، ورأسه تحديداً، في التخطيط لعملية الاغتيال والتحريض ضد الضحية، إلا أن النظام استطاع الخروج من دائرة المسائلة، بطرق ملتوية كان من أهمها استعداده للانحناء أمام العاصفة ودفع فاتورة قاسية تمثلت في انسحاب القوات السورية من لبنان بعد ثلاثة عقود، مدركاً تناقض المصالح الدولية وضعف الآليات الأممية للمسائلة والمحاسبة في الجرائم التي لاتمس مصالح الكبار.

المرحلة الثالثة من حكم بشار هي مرحلة استعادة الثقة وإعادة التأهيل الدولي للنظام ورأسه، بعد الحرب الإسرائيلية مع حزب الله في صيف عام 2006. ومع أن لبنان البلد قد دفع ثمناً باهظاً لمغامرة حزب الله في اختطاف جنود إسرائليين، إلا أن فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها من تلك الحرب، قد مكن الحزب وداعميه الإيراني والسوري من إعلان نصر، كان بالنسبة لرأس النظام بمثابة تعويض مهم للانسحاب المخزي في أعقاب اغتيال الرئيس الحريري. ولعل نعت بشار لمنتقدي الحزب من الحكام العرب بـ “أنصاف الرجال”، كان مؤشراً قوياً على استعادة الثقة بالنفس لشخص كان بالأمس في موقع المتهم بجريمة اغتيال دولية. بعض هؤلاء الحكام، وآخرين من القادة الأوربيين وعلى رأسهم الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، كانوا ممن اتخذوا خطوات لتجاوز الماضي، وإعادة تأهيل بشار إقليمياً ودولياً، وذلك باقتصار التحقيق في جريمة الاغتيال على المنفذين فقط، وقبول منطق النظام الضمني بأنه دفغ ثمناً مقبولاً بانسحابه العسكري من لبنان.

تبدأ المرحلة الرابعة من حكم بشار مع انقضاء عشر سنوات على استلامه سدة الرئاسة، بسجل متواضع على صعيد “الإنجازات”، خاصة مع الإشكالات الداخلية التي تفاقمت مع مرور الوقت، وذلك بإنكار وإهمال التعاطي معها باسم التحديات الخارجية (المؤامرة المستمرة على محور المقاومة)، أو من خلال تقديم بعض الحلول المهدئة. وعندما انطلق الربيع العربي في تونس مع نهاية عام 2010، أنكر رأس النظام أن بلاده معنية بما يجري، فسوريا غير مصر، كما أن مصر ليست تونس، كما قال حسني مبارك قبله. وتكشف المقابلة الشهيرة التي أجراها بشار مع صحيفة وول ستريت جورنال، في آخر يوم من شهر كانون  الثاني/يناير لعام 2011 عن الحالة العقلية والنفسية لدكتاتور معزول عن الواقع. فالثورات، حسب بشار، قامت في الدول الصديقة للولايات المتحدة، وهي دول يعيش حكامها في معزل عن شعوبهم. في حين يجسد نظامه روح المقاومة للإمبريالية والصهيونية، ويسير بتؤدة على طريق الإصلاح الذي سيتم تتويجه—و الكلام لرأس النظام- بإعطاء رخص لبعض المطبوعات المستقلة، والسماح بتنافس أكبر على صعيد الانتخابات المحلية! لقد بدأت إرهاصات الثورة السورية في دمشق العاصمة، لكن انطلاق الشرارة الكبرى كانت في مكان لم يكن يتوقعه النظام في مدينة درعا، بفعل أطفال كانت لديهم الجرأة لاستنساخ شعارات ثورة الربيع العربي على جدران مدرستهم، في حادثة أشبه ما تكون بقصة الطفل مع الامبراطور الروماني المتذاكي على شعبه، عندما صرخ الطفل أمام الجميع بأن الامبراطور عار من دون ملابس. عندما خرج الأهالي في مدينة درعا مطالبين بالإفراج عن أطفالهم، كان رد فعل النظام بعقليته الأمنية عنيفاً، منسجماً مع تاريخه وتجربته وثقافته التي ترسخت على مدى عقود، وكان من أهم محطاتها القمع الشامل للمعارضة الإسلامية في آوائل الثمانينيات. العنف الذي استخدمته الأجهزة القمعية ضد التظاهرات السلمية أدى إلى نتيجة عكسية غير متوقعة تمثلت بكسر حاجز الخوف، إذ انتشرت حركة التظاهر في كافة أنحاء البلاد.

ومع انتشار التظاهرات السلمية، وفي أجواء التفاؤل التي عمت بلاد العرب وتُوجت برحيل الرئيسين التونسي والمصري، ومقتل القذافي فيما بعد، سادت قناعة داخل البلاد وخارجها بأن أيام رأس النظام معدودة، مالم يتخذ خطوات جذرية على طريق الإصلاح، وهو ماكان يأمله خصوم النظام قبل أصدقائه. لقد أثبت بشار الأسد للجميع بأنهم على خطأ وبأنه استطاع الحفاظ على مقاليد حكمه، بعد أكثر من تسع سنوات من مقارعة أكثرية شعبه، ودول إقليمية ودولية، فكيف أمكن له ذلك؟

لقد لجأ النظام منذ الأيام الأولى للثورة، كما تبين من الظهور الأول لبشار أمام مايسمى بمجلس الشعب، إلى سردية ملخصها أن النظام التقدمي المقاوم يواجه “مؤامرة” كونية من الأعداء الداخليين المتمثلين بقوى التطرف والظلام، مدعومين من قبل دول إقليمية لا تمت للحرية والديمقراطية بصلة، وأخرى دولية هاجسها معاقبة النظام على مواقفه المشرفة بدعم المقاومة لإسرائيل ومشروعها التوسعي. لكن السردية لوحدها لاتكسب مواجهة ضد شعب قد انتفض بعد عقود من القمع والتخويف والتجويع، وحظي بتفهم ودعم أغلبية دول المجتمع الدولي. لقد استطاع بشار الأسد الاستمرار في الحكم بفعل العوامل التالية:

أولاً، انتهاج استراتيجية استخدام أقصى درجات العنف والقمع ضد شعبه، والاستعداد للتخلي عن أجزاء من البلاد التي لايمكن السيطرة عليها، لكن بعد إحراقها وتدميرها. في الشق الأول من هذه الاستراتيجية، تدرج النظام في استخدام ترسانته العسكرية—دفع ثمنها السوريون بأموالهم وعرقهم- ضد الشعب السوري، بدءاً بالقنص والمدفعية والدبابات، وصولاً إلى السلاح الجوي  والبراميل المتفجرة، وأخيراً السلاح الكيماوي المحرم دولياً. واستغل النظام تحول الثورة السلمية إلى مقاومة مسلحة، بعد أشهر من القمع الممنهج، وكذلك دخول بعض التنظيمات المتطرفة على خط الثورة الوطنية المدنية، وهو ما ساهم النظام فيه بشكل كبير. وعلى مدى السنوات الفائتة، وثقت المنظمات الدولية والحقوقية جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ارتكبتها الأطراف المتنازعة، لكن كان للنظام نصيب الأسد منها (أكثر من 90 بالمائة). استراتيجية الأرض المحروقة التي انتهجها النظام، عبر عنها مؤويده بمقولة: “الأسد أو نحرق البلد”. لقد تم تدمير أكثر من 60 بالمائة من المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، وقُتل، حسب التقديرات المتواضعة، اكثر من 700 ألف سوري، وجرح أكثر من مليون إنسان، وتم تهجير أكثر من نصف الشعب السوري داخل البلاد وخارجها. الأمر الهام أنه بالنسبة لرأس النظام ومعاونيه، فإن هذا ثمن مقبول للحفاظ على الحكم، فالبلاد الآن بالنسبة لهم “أكثر تجانساً”، وبحال أفضل بعد أن تم التخلص من الإرهابيين وداعميهم.

ثانياً، العامل الثاني الذي يفسر استمرار الأسد في الحكم يتمثل في دور القوى الإقليمية والدولية، خاصة بعد تحول الصراع في سوريا إلى صراع إقليمي/دولي. وهنا يمكن تبسيط هذا العامل إلى ثنائية، أحد أوجهها القوى التي دعمت النظام، والأخرى التي عارضته. فبالنسبة للقوى التي وقفت مع النظام، وعلى الرغم من قلتها، إلا أنها كانت أكثر فاعلية من 114 دولة التي أطلقت على نفسها اسم “أصدقاء الشعب السوري”، وكانت في صف المعارضين للأسد. إيران وذراعها اللبناني، حزب الله، قدمت الدعم المالي والعسكري والسياسي، وجندت عشرات الآلاف من الميليشيات الطائفية، حاربت قوى المعارضة بالنيابة عن النظام، وساهمت في منع انهياره عسكرياً. لكن الدور الحاسم كان لروسيا، التي تحولت من الدعم السياسي والعسكري في السنوات الأولى إلى التدخل المباشر في أيلول/سبتمبر عام 2015، لتقلب موازين القوى العسكرية لصالح النظام وتساعده في تحوير العملية السياسية لضمان بقاءه. الوجه المقابل للدور الإقليمي والدولي تمثل في عجز المجتمع الدولي ممثلاً بأغلبية أعضاءه، بمن فيهم أغلبية الدول العربية وتركيا والاتحاد الأوربي والولايات المتحدة، في وضع حد لجرائم النظام، وحماية المدنيين، أو على الأقل مجاراة داعمي النظام في إحداث توازن قوى، لتطبيق حل سياسي، تم صياغة إطاره من خلال وثيقة بيان جنيف لعام 2012، وقرار مجلس الأمن 2254 لعام 2015.

لقد استطاع النظام، من خلال داعميه الروسي والإيراني، استعادة جزء هام من الأراضي التي فقدها، وقاد المحتل الروسي عملية سياسية مع إيران وتركيا، تم بمقتضاها إخراج مقاتلي المعارضة من مناطق هامة في وسط البلاد، ومحيط العاصمة، والجنوب، إلى الشمال الغربي من البلاد. لكن لحظة إعلان انتصار النظام على شعبه، لم تكن لتدوم طويلاً، وذلك لأنه لا يوجد رابحون في الحروب الأهلية، وهو أمر لم يستوعبه النظام ورأسه عندما أوغل في قتل أبناء وطنه. الأمر الآخر الذي اكتشفه النظام أنه أصبح مسؤولاً عن المناطق التي أعاد السيطرة عليها، وعن إعادة إعمارها، وهو أمر أكبر من قدرته، ومن إمكانيات داعميه من الروس والإيرانيين.

التركة الثقيلة والثمن الهائل الذي دفعته البلاد ثمناً لتمسك بشار بالحكم، ما كان ليكتمل بإعادة تأهيل للنظام الذي تجاوز هذه المرة بجرائمه مرحلة تصعب حتى على داعميه تبريرها. ومن هنا، كان تمرير قانون “قيصر”، ومن ثم الإعلان عن تطبيقه، تزامناً مع مرور عشرين عاماً على حكم بشار، تمرير هذا القانون يُكمل إحكام حلقة حرمان النظام من إعلان النصر السياسي بعد أن أعلن أنه كسب المعركة العسكرية. ومع  أن النظام حاول تحميل فشله في إدارة الأزمة الاقتصادية القاتلة التي تعصف بالبلاد—بينما تعاني أغلب دول العالم بما في ذلك داعمي النظام من أزمة كورونا- على حزمة العقوبات المتضمنة في قانون قيصر، فإن الأمر الأكيد أن النظام قد وصل إلى طريق مسدود في كسب معركة السلام. ومع أنه من غير المتوقع أن يكون لدى بشار الجرأة للتسليم بفشله الذريع في حكم سوريا، فإنه لن يتوانى عن تقديم استمراره في الحكم على أنه الإنجاز الأكبر له. هذه الحقيقة تلقي العبء على الأطراف الدولية الأساسية، وعلى رأسها الولايات المتحدة—العائدة للملف السوري من خلال قانون قيصر- وروسيا الداعم الأساسي للأسد، لإيجاد مخرج لسوريا، يحقق تطلعات الشعب السوري، ويحفظ مصالح البلدين المتناقضة. الوقت اللازم لحل هذه المعادلة الصعبة قد يطول أويقصر، لكنه يضع الشعب السوري المنهك من هذا الصراع أمام تحد الوقوف على قدميه، وصياغة مستقبل له، تستفيد من تجارب المعارضة المتعثرة، وتتجاوز تجربة مأساة حكم بشار الأسد.

المصدر السورية.نت


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا