عن الجدل المتجدد في محاكمة العقيد أنور رسلان

رغم الجدل الكبير الذي أحدثته انطلاقة محاكمة الضابط السوري السابق في جهاز أمن الدولة، العقيد أنور رسلان، وصف الضابط إياد غريب، اللذين غادرا وظيفتهما منذ العام 2012 وانضما إلى المعارضة، إلا أن منطق الانتصار للعدالة والانحياز للضحية هو الذي انتصر في النهاية وهذا طبيعي.

فعلى الرغم من الهواجس التي أثارها خبر اعتقال رسلان وغريب، بين اللاجئين في ألمانيا، بسبب شكاوى قدمت ضدهما باعتبارهما موظفين سابقين في فرع أمني ارتكب جرائم كبيرة، مثل بقية أجهزة مخابرات النظام، وسبب هذه الهواجس الرئيسي هو الخشية من أن يفتح ذلك الباب على ملاحقة الضباط المنشقين عن النظام، والمسؤولين في المعارضة بتهمة ارتكاب جرائم حرب، بينما يستمر ضباط النظام ومسؤولوه أحراراً طلقاء، إلا أن هذه الهواجس تفقد قيمتها أمام الحديث عن ارتكاب هؤلاء المتهمين جرائم بشكل شخصي ومباشر، وهو أمر إن ثبت على أي شخص فتجب محاسبته بدون تردد مهما كان موقعه أو موقفه من الثورة.

رد فريق الادعاء، وبينهم ناشطون حقوقيون سوريون معتبرون، ومعتقلون سابقون من الناشطين المعروفين في الثورة، على أصحاب هذه الهواجس بالتأكيد على أن العقيد أنور رسلان متهم بشكل شخصي بارتكاب جرائم ضد الإنسانية تشمل التعذيب والقتل والاغتصاب. وعلى الرغم من شهادات عدة وردت من آخرين تحدثت بإيجابية عن المتهم، وأنه قدم مساعدات وتسهيلات لمعتقلين في فرع الخطيب الذي كان يرأس قسم التحقيق فيه خلال أشهر الثورة الأولى، إلا أن الصوت الأقوى يبقى للمتضرر بطبيعة الحال، ولا يمكن لعمل أو أعمال جيدة أن تكفر جريمة واحدة بحجم التعذيب حتى الموت أو الاغتصاب.

مرت الأيام وتتالت جلسات الاستماع إلى الشهود في المحكمة التي تستضيفها مدينة كوبلنز في ألمانيا منذ نيسان الماضي، لكن اللافت حتى الآن أن جميع شهادات الادعاء لا تتحدث عن جرائم ارتكبها هذا الضابط بشكل شخصي، بل عن تلك التي وقعت في الفرع خلال فترة عمله فيه.

ما يثير الانتباه أكثر في هذه الشهادات أن بعضها حمل تضاربات وتناقضات في التواريخ والأرقام، لكن الشهادة الأخيرة التي تداولتها وسائل الإعلام بداية هذا الأسبوع كانت الأكثر إثارة للجدل، سواء بسبب هوية صاحبها أو بسبب مضمونها.

فالشاهد الأخير الذي استمعت إليه المحكمة بعد أن منحته السرية الكاملة قال إنه كان يعمل في دائرة دفن الموتى بدمشق حتى عام (٢٠١٧)، وإنه خلال الفترة بين عامي 2011 و 2017 كُلف من قبل ضباط المخابرات بترؤس فريق من عمال الدائرة من أجل دفن الجثث التي كانت تخرج من الأفرع الأمنية وسجن صيدنايا، وبينها فرع الخطيب التابع لأمن الدولة بدمشق، وأن عدد الجثث يتراوح وقتها بين مليون ومليونين على الأقل!.

أرقام يمكن بسهولة للمحكمة أن تعتبرها مضللة، حتى بالاعتماد على إحصاءات وأعداد الضحايا التي تقدمها مؤسسات التوثيق المعارضة، ولا يمكن القول إنها تعبر في النهاية عن حجم ومدى الجريمة وليس بالضرورة عن الأرقام الحقيقية، فأمام المحاكم المحترفة لا يمكن الحديث بهذا المنطق، وإذا حصل وأخذت المحكمة الألمانية هذا الجانب بعين الاعتبار فإنها حكماً ستقرر عدم الأخذ بها حتى إذا ما أرادت إدانة النظام وليس فقط المتهمين لديها، مهما حاول المتحمسون تبرير هذه الشهادة أو تفسيرها.

لقد اعتقد الكثير من مؤيدي محاكمة العقيد أنور رسلان أن المتحفظين عليها يرفضون العدالة، وأنه بمجرد أن رسلان محسوب على المعارضة بات يعارضون محاكمته، ومن الجيد هنا أن المتهم ليس قياديا من أي مستوى في مؤسسات المعارضة، ولا في الفصائل العسكرية، وإلا اتهم المتحفظون على محاكمته بهذه الطريقة وهذا التوقيت بأنهم منتفعون منه!

والحقيقة أن وجه التحفظ الأول كان على أن تبدأ محاسبة النظام على جرائمه من خلال الضباط المنشقين عنه، في الوقت الذي يسرح في أوروبا المئات وربما الآلاف من الشبيحة والمقاتلين السابقين في صفوف النظام، ممن ينشرون صور مشاركاتهم في جرائمه على حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي حتى اليوم دون ملاحقة، بل إن مجرماً خطيراً مداناً بشكل لا يقبل التشكيك بجرائم حرب كبرى مثل رفعت الأسد يعيش منذ نحو أربعين سنة في الغرب دون أن يحاكمه أحد.

على هذا الوجه من التحفظ رد القائمون على ملف الادعاء في قضية أنور رسلان أنهم يعدون ملفات بحق كل الشبيحة في أوروبا، وطالبوا من يتعرف على أي منهم بتقديم شكوى ضده، وفيما يخص رفعت الأسد قالوا إنه كان على الإخوان المسلمين أن يقاضوه خلال العقود الفائتة، وهما ردان غريبان، إذ كيف تكون مسؤولية الأشخاص العاديين القيام بمهمة مؤسسات حقوقية محترفة، وهل إذا لم يطلب الإخوان المسلمين محاسبة رفعت الأسد تُخلى بذلك مسؤولية الآخرين من أصحاب الاختصاص؟!

وجه التحفظ الثاني هو أنه عندما تم نشر معظم الشهادات في محكمة العقيد أنور رسلان تبين أن أصحابها يتحدثون عن جرائم ارتكبت بحقهم خلال فترة عمل هذا الضابط في فرع الخطيب، وليس من قبله شخصياً، وهذا يعني أن كل الضباط المنشقين عن جيش النظام يصبح محقاً العمل على محاكمتهم عن جرائم وحداتهم وتشكيلاتهم التي انشقوا عنه خلال فترة وجودهم فيها !

الرد على هذا التحفظ جاء أن قطار العدالة من أجل السوريين انطلق، وأن محاكمة النظام بدأت من خلال محاكمة هذا الضابط وصف الضابط اللذين غادرا وظيفتيهما منذ ثمانية أعوام، وهو منطق غريب فعلاً أن تعتبر محاسبة مسؤولين بهذا الحجم وهذا المستوى بمثابة قاطرة لمحاسبة النظام، حتى لو ثبتت إدانتهما شخصياً، وهو ما لم يحصل حتى الآن على الأقل.

إن السوريين لم ينتظروا كل هذه السنوات لكي يأتي من يقول لهم إن الثأر لعذاباتكم وعذابات أحبائكم من ضحايا الاعتقال والتعذيب يبدأ من خلال محاكمة ضابط صغير وصف ضابط بلا قيمة، لكنهم مع ذلك يقبلون ولا يمكن إلا أن يقبلوا أصلاً بأن ينال هذان الاثنان العقوبة التي يستحقانها إذا ثبت ارتكابهما جرائم بشكل شخصي بالفعل، لكن أن تتم إدانة شخصين تخليا في وقت مبكر عن النظام ومن خلال الإعلام قبل أن يحكم القضاء، وأن نبدأ نحن بملاحقة الذين قرروا مغادرة مواقعهم لدى النظام في العامين الأولين من الثورة تحت شعار العدالة فهذا أبعد ما يكون عن المنطق والعدالة.

في النهاية يجب القول إن أنور رسلان وغريب محظوظان بالفعل لأنهم يقفان أمام محكمة مستقلة حقاً، ويعتقد بأنها عادلة وليست مثل محاكم معظم البلاد العربية، وإنهما إذا كان بريئين فسيتم إطلاق سراحهما، وإذا كانا مدانين فيجب عقوبتهما، وفي كلا الحالين هذا انتصار للسوريين، لكن الانتصار الحقيقي هو عندما ننجح بالوصول إلى المجرمين الكبار ومحاسبتهم، دون أن يعني ذلك التخلي عن ملاحقة صغار المجرمين مؤكداً، لكن! المجرمين المؤكدين.

المصدر syria.tv


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا