موت الإنتخابات الروسية

انتهى أمس الأربعاء ، في الأول من الشهر الجاري ، تصويت الروس على التعديلات الدستورية ، التي تمنح بوتين حق انتخابه رئيساً لدورتين متتاليتين ، بعد أن كان قد تم تصفير دوراته الرئاسية الأربع السابقة بموجب قانون من مجلس الدوما الروسي. ولم تكن مدة عملية التصويت هذه ، هي الأمر الغريب الوحيد ، الذي تفردت به هذه العملية . فقد تواصلت لأسبوع كامل ، وكانت مقراتها تتنقل حيث يشاء الناخب ، فتلحق به لجنة الإقتراع حيث يريد ، سواء في المنزل أو الحديقة أو الشارع ، وتتم عملية التصويت على صندوق السيارة أو فوق سطح الكاراج أو على جذع شجرة . المكان ليس هو المهم ، بل المهم هو أن تصوت ، وتؤمن نسبة المشاركة المستهدفة .

أثارت عملية التصويت المبتكرة هذه ، قبل نتائجها ، سيلاً من التعليقات الساخرة وسط الروس . فقد نقل موقع “Meduza” المعارض تغريدة ساخرة لأحد الروس قال فيها : هاهاها ، ماذا ، هم يصوتون في صندوق السيارة وعلى جذوع الأشجار ، هاهاها ! مهلاً ، لا تتعجل بالضحك ـــــــ كل شيئ يجري وفق القانون . وفي نص بعنوان “نلخص نتائج تصويت أسبوعي غريب . كيف تمكن الكرملين من إكراه الروس على التصويت على الدستور الجديد و”تصفير” رئاسات بوتين”، نقل الموقع عن إحدى أعضاء لجنة الإنتخابات الفدرالية قولها ، بأن التصويت بجوار المنزل أمر جديد بالنسبة لروسيا ، لكن التصويت في الهواء الطلق أمر معروف في العديد من البلدان ، لا يثير الإعتراضات . لكن ، ولأسباب ما ، اصبح في روسيا مدعاة لتشويه سمعة الإقتراع . ونقل الموقع عن الناطق بإسم الكرملين ديمتري بيسكوف قوله ، بأنه لم يجد ما هو غير اعتيادي في صناديق الإقتراع الموزعة في باحات المنازل ، والمقصود هو توفير الإمكانية لممارسة المرء حق التعبير عن إرادته ، بغض النظر عن المكان المحيط بصندوق الإقتراع  .

صحيفة “Novaya” الليبرالية المعارضة ، نشرت بدورها تعليقاً شديد السخرية  لأحد مراقبي الإنتخابات المخضرمين بعنوان “وتحت كل شجرة كانت تكمن لجنة إنتخابات” . قال هذا المراقب المخضرم ، أنه بعد االإنتخابات البرلمانية في العام 2011 ، لم يتمكن من النوم لأيام عديدة ، وكانت تتراءى له الأنامل الرشيقة لرئيسة قلم  الإقتراع  وهي تستبدل أوراق المقترعين لدى احتساب الأصوات . وقال بأنه أحس بنفسه طفلاً خدعه الكبار من دون خجل ، وشعر بالرغبة في تنظيم رقابة على الإنتخابات التالية ، مما أسفر عن ظهور منظمة “مراقبو بتروغراد” للإنتخابات .

وبعد الإنتخابات الرئاسية العام 2012  ، يقول بأنه شعر بنفسه ظلاً لا وجود له في الواقع ، إذ سخروا في وجوه أفراد مجموعتهم المنظمة للمراقبة ، ولم يسمحوا لهم ولمندوبي المرشحين الآخرين بدخول أقلام الإقتراع ، متحججين بوجود وثائق وهمية لمنعهم من الدخول ، وحملوا اللجوجين منهم مع مقاعدهم إلى خارج أقلام الإقتراع. ويعدد من ثم الإنتخابات البرلمانية والرئاسية والمحلية ، التي شارك في مراقبتها وشهد على تزويرها ، ويقول بأنهم يزورون بحكم العادة ، وليس من اجل النتائج ، بل كي لا يفقدوا مهارتهم في التزوير . ويعترف بأنه بعد كل ماشهده ، كان يعتقد بأنه أصبح من الصعب إثارة دهشته ، لكن الإنتخابات الحالية أصابته في الصميم ، من التعديلات الدستورية نفسها ،  التي شكلت ورقة التين لتغطية التمديد لبوتين ، إلى الطريق المتعرجة الطويلة ، التي سلكوها للتوصل إلى إقرار الإقتراع الراهن، إلى القانون ، الذي ابتدعوه لإجراء التصويت بدلاً من تنظيم إستفتاء شعبي عام على التعديلات الدستورية . ويقول حال بوتين كحال ذاك المتسلط الشرقي ، الذي كان يرسل جيشه لنهب مدينة  ، ويسأل في كل مرة عن حال الناس بعد غزوة النهب ، فيقولون له بأنهم يبكون ، وحين قيل له بأن الناس أخذوا يضحكون بعد الغزوة ، توقف عن إرسال الجيش في غزوة جديدة ، لأنه أدرك بأنه لم يعد لدى الناس ما يبكونه.

إعلام الكرملين لم يبخل بالثناء على نزاهة الإنتخابات وشفافيتها ، وعلى قدرة السلطات في استخدام التقنيات الإلكترونية من أجل “بلوغ مستوى جديد من شفافية الإنتخابات” . ووجدت إحدى السيدات من الكتاب السياسيين ، الذين استصرحتهم صحيفة الكرملين “vz” حول الإنتخابات ، الفرصة سانحة لتوجيه اللوم إلى المعارضة ، التي “أضاعت فرصة تاريخية” لتوحيد صفوفها . وقالت هذه السيدة بأن المعارضة لم تكن كفؤة في احتساب إستراتيجيتها الإنتخابية ، وكانت لديها فرصة تاريخية ليست سيئة من أجل توحدها ، إلا أنهم أضاعوها في الكشف عمن هو أذكى من الآخر بينهم ، وفي المساومة على تقاسم الحصص.

الباحث في مركز كارنيغي موسكو أندريه بيرتسيف ، وفي نص بعنوان “موت عملية . كيف سيغير التصويت على التعديلات الإنتخابات الروسية” نشره قبل يوم من إنتهاء عملية التصويت . يقول الكاتب بأن التغيرات في قانون الإنتخاب الروسي ، من السهل تقديمها تحت حجة الإهتمام بالمواطنين الروس ، وطالما أن التصويت الحالي تبين أنه مريح في إجرائه بسبب وباء الكورونا ، فلما لا يجري تعميم هذه المعايير على مرحلة ما بعد الوباء ؟ فالسلطات أخذت  منذ الآن تركز على “المريح” وليس على الأمن والوباء . وباء فيروس كورونا أتاح للسلطات الروسية تغييراً جذرياً في معايير إجراء الإقتراع. فمن أجل تفادي تجمع الحشود ، تستمر عملية الإنتخاب لعدة أيام ولا تقتصر على يوم واحد ، ويمكن أن تدلي بصوتك ليس في مقر محدد ، بل على غطاء صندوق السيارة أو على جذوع الأشجار المقطوعة. ويؤكد فلاديمير بوتين وسواه من ممثلي السلطة ، أن مثل هذه التغييرات لا تؤثر في شرعية نتائج التصويت . أضف إلى ذلك ، أنهم أخذوا يفسرون هذه التغييرات ، ليس بظروف الوباء الاستثنائية ، بل باهتمامهم براحة المواطنين. مما يعني أنهم سوف يحافظون في الأغلب على المعيار الجديد ، ويستخدمونه في الإنتخابات المقبلة ، وبالدرجة الأولى في إنتخابات مجلس الدوما في العام 2021 .

التصويت على التعديلات في الدستور ، الذي قدمه الكرملين في البداية ، بوصفه إجراء مقدساً لإقرار عقد إجتماعي جديد وترسيخ “إرث بوتين” ، اتخذ أكثر الأشكال غرابة بنتيجة التعديلات ، التي فرضها وباء كورونا . فإذا كان التصويت ينبغي أن يجري وفق المخططات الأولية في يوم واحد ، فقد تمدد الآن ليصبح أسبوعاً كاملاً ، وأصبح من الممكن إستدعاء لجنة الإنتخابات إلى المنزل ، من دون أي عذر شرعي ، وتقام مقرات الإنتخابات في باحات المنازل .

ويقول الكاتب ، أن ديوان الرئاسة الروسية نظم التصويت على نحو خلق معه ظروفاً مثالية لتصويب نتيجة التصويت في الإتجاه المرغوب ، وحتى لصياغتها بصورة إرادية . فمراقبو الإنتخابات المعارضون لن يتمكنوا من البقاء أسبوعاً كاملاً في مقرات التصويت ، والتصويت في المنزل أو في باحته ، أو في الأوتوبيس وعلى غطاء صندوق السيارة وعلى جذوع الأشجار المقطوعة ، يحيد أيضاً المراقبين ، ويبسط عملية تصحيح النتائج. كما أن التصويت لمدة أسبوع كامل يتيح أكثر إمكانية مراقبة موظفي الدولة ، أو العاملين المرتبطين بسلطة المصانع ، ويتيح “العمل على تصويب الأخطاء” ، التي قد يرتكبها هؤلاء في عملية استنفارهم للإنتخابات.

ويقول الكاتب بأن جميع التدابير ، التي ورد ذكرها( ما عدا تمديد فترة التصويت) ، يستخدمها مسؤولو الإنتخابات في الكرملين منذ مدة طويلة ، لكن بجرعات محدودة ، وسوف يصبح التوسع في استخدامها عنواناً للتزوير وموت العملية الإنتخابية في روسيا .

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا