هل تعمل واشنطن على الإخلال بالتوازن بين أنقرة وأثينا؟

رصدت تركيا، بطائراتها المسيّرة، نقل اليونان مدرعات منحتها لها الولايات المتحدة الأمريكية إلى جزيرتَيْ مدللي (لسبوس) وسيسام (ساموس) في بحر إيجه يومي 18 و21 من الشهر الجاري. ونقلت اليونان، وفق المصادر التركية، 23 مدرعة إلى جزيرة مدللي و18 إلى جزيرة سيسام، ويفترض أن تكونا منزوعتَيْ السلاح وفق اتفاقيتَيْ لوزان 1923 وباريس للسلام 1947.

وإن كانت أنقرة قد حذرت أثينا مراراً من استمرارها بتسليح الجزر انتهاكاً للاتفاقيات ذات الصلة، إلا أن اللافت في البيان الأخير هو الإشارة الواضحة إلى أن المدرعات ممنوحة من الولايات المتحدة، في دلالة ضمنية على مسؤوليةٍ ما للأخيرة في التطورات الحاصلة مؤخراً بين الجارين اللدودين.

فأنقرة منزعجة مؤخراً مما تعدُّه انحيازاً أمريكياً نسبياً لليونان في النزاع معها، حيث ذكر وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو قبل أسابيع أن واشنطن قد ابتعدت عن الحياد الذي التزمت به منذ عقود بين تركيا واليونان من جهة، وفي المسألة القبرصية من جهة ثانية. بل إن أردوغان ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، محذراً من أطراف تستخدم اليونان لإشغال بلاده وإعاقتها “كما فعلوا قبل قرن من الزمان”، وقد قصد بهذه “الأطراف” كلاً من فرنسا والولايات المتحدة، وفق ما جاء في مقال لمستشاره للسياسة الخارجية ياسين أقطاي.

وقد بدأت تركيا تتحدث عن هذا الانحياز النسبي منذ التوتر الأخير الكبير مع اليونان في 2020، حين أعلن وزير الخارجية آنذاك مايك بومبيو عن رفع جزئي لحظر تصدير السلاح لقبرص اليونانية (الرومية)، الذي انتهجته الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ عقود للحيلولة دون سباق التسلح والحفاظ على التوازن والسلم في الجزيرة، فضلاً عن بعض الإشارات الرمزية مثل زيارة اليونان دون تركيا.

بيد أن الأهم بالنسبة لأنقرة كان التعاون العسكري المتنامي بين الولايات المتحدة واليونان بالتوازي مع وعلى هامش توتر علاقاتها مع الأخيرة. ففي نهاية العام الفائت حدّث البلدان معاهدة التعاون الدفاعي بينهما، بما منح القوات الأمريكية حرية الانتشار بشكل أوسع على الأراضي اليونانية وإمكانية استخدام قواعد عسكرية جديدة. كما أن واشنطن نفذت عدة مناورات عسكرية مع أثينا بالقرب من الحدود التركية نفسها، بما عدَّته أنقرة تهديداً موجهاً لها. ولذلك، وفي معرض انتقاده لهذا التعاون المتسارع بين الجانبين، قال الرئيس التركي إن اليونان قد “تحولت لقاعدة عسكرية أمريكية”، مقللاً من مصداقية السردية الأمريكية بأن كل ذلك موجه فقط ضد روسيا.

يضاف لكل ما سبق ملف في بالغ الأهمية والحساسية بالنسبة لتركيا، وهو ملف التسلح ولا سيما ما يتعلق بتحديث المقاتلات. فقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد أخرجت تركيا من مشروع مقاتلات F35 (الذي كانت فيه شريكاً مساهماً ومصنّعاً وليس فقط مجرد زبون)، وما زالت حتى اليوم لم توافق على صفقة F16 لتحديث المقاتلات التركية من هذا النوع وبيع مزيد منها، مع مقترحات من الكونغرس بأن تتم الصفقة مع اشتراط عدم استخدامها ضد اليونان أو بعدم انتهاك المجال الجوي اليوناني، مع العلم أن تحديد المجال الجوي للبلدين لا سيما فوق بحر إيجه أمر خلافي بين البلدين لعدة أسباب؛ في مقدمتها ضيق المسافة بين ضفتي البلدين على البحر. في المقابل، فقد حصلت اليونان خلال الشهر الجاري على مقاتلتين مطورتين من طراز F16 كدفعة أولى من صفقة تشمل 83 مقاتلة ينتهي تسليمها بعد خمسة أعوام.

وبداهة، فإن أنقرة تشعر بقلق وانزعاج شديدين من تطورات من هذه النوعية. فمن جهة كان مجرد شراء تركيا منظومة S400 الدفاعية الروسية (قبل التفعيل) سبباً للعقوبات المذكورة وغيرها، بينما لم يستدع تفعيل اليونان منظومة S300 الموجودة على جزيرة كريت -وفق تركيا- وضد دولة من أعضاء الناتو أي ردة فعل حقيقية من واشنطن. ومن جهة ثانية، وهو الأهم بالنسبة لأنقرة، يهدد ذلك بكسر التوازن بين البلدين الجارين لصالح اليونان على المدى البعيد في ظل المماطلة الأمريكية، والتهديد بالعقوبات في حال شراء سلاح روسي. والتوقع أن تصل تركيا للقدرات الذاتية على تصنيع المقاتلات -وبالعدد والكفاءة المطلوبين- بعد عقد من الآن على أقل تقدير وفق بعض التقارير.

ولذلك، فقد كانت ردة فعل أردوغان ملحوظة، حيث أكد على رغبة بلاده في إبرام صفقة تحديث وشراء F16 من الولايات المتحدة وفق ما وعد به الرئيس الأمريكي مؤخراً، مع الإبقاء على حق بلاده في البحث عن بدائل واستعدادها لشراء المقاتلات من بلاد أخرى من بينها روسيا. وإضافة لذلك، فقد اتسم الخطاب التركي مؤخراً، بما في ذلك كلمة الرئيس أردوغان أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، بانتقاد الولايات المتحدة، فضلاً عن مشاركة الأخير بشكل لافت في قمة منظمة شنغهاي للتعاون في سمرقند الأسبوع الفائت.
بالنسبة لتركيا يرتبط الأمر بسياقات لا تحتمل التنازل أو السماح بتفوق الخصم، فهو نزاع مع خصم تقليدي وتاريخي في منطقة تنافس جيوسياسي محموم وعلى ثروات كبيرة متوقعة فيها، ولذلك تتواتر التصريحات والرسائل التركية لليونان أولاً ولداعميها ثانياً، ومن ضمنهم الولايات المتحدة من وجهة نظر أنقرة.

وهنا، حذر جاويش أوغلو من أن نزع سلاح الجزر كان أحد شروط نقل ملكية بعضها من إيطاليا لليونان بعد الحرب العالمية الثانية، دون أن تكون تركيا طرفاً في ذلك، ما يعني -وفق الوزير- أن تسليحها قد يعيد طرح موضوع السيادة عليها للنقاش مجدداً.
تبدو أنقرة جادة جداً فيما يتعلق بحالة التنافس و/أو الصراع مع اليونان، وصدرت عن القيادات التركية ما يمكن عدُّها تحذيرات و/أو تهديدات مباشرة لها، ورغم ذلك لا يبدو أن الأخيرة في طور التراجع عن مسار التوتر. الأهم بالنسبة لأنقرة هو الموقف الأمريكي الذي له دوره المؤثر في نزاع من هذا النوع لا سيما إذا ما تفاقم أكثر وتحول لصدام مباشر، ورغم ذلك وحتى اللحظة لم تصدر عن الولايات المتحدة مؤشرات حقيقية على الرغبة في مراجعة ما. لكن من يدري، فالحرب الروسية- الأوكرانية التي غيرت الكثير حتى الآن في عالمنا قد تمتد لتطول العلاقات التركية- الأمريكية. ربما، من يدري.

المصدر عربي 21


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا