وقود السوريين وعُقدة نيسان

قبل نحو عامٍ، كتبنا في هذه الزاوية مقالاً يدّعي وجود ما يشبه علاقة “قدرية” غير قابلة للتفسير، تربط بين الوصول إلى ذروة غير مسبوقة لأزمة الوقود في سوريا، في نيسان/أبريل من كل عام، وبين حصول انفراجة مؤقتة تلي الأزمة، في الشهر نفسه.

وبالفعل، تتكرر أزمة “نيسان”، هذا العام أيضاً. ويشح البنزين بالسعر “المدعوم” وبسعر التكلفة، فيما يتوافر بكثافة في السوق السوداء، لكن بأسعار غير مسبوقة. كذلك يشح المازوت الخاص بالسرافيس (ميكروباصات النقل الجماعي). وتتوارد من دمشق صورٌ لأزمة نقل خانقة، حيث يحتشد الموظفون وطلاب الجامعات الخارجون من أعمالهم، تحت “جسر الرئيس” في البرامكة، عاجزين عن الحصول على وسيلة نقل تقلهم إلى منازلهم، وسط نداءات يتم تداولها في وسائل التواصل الاجتماعي، تدعو كل من يملك سيارة من أي نوع، حتى لو كانت شاحنة نقل مواشي، أو سيارة لنقل مواد البناء، للمساعدة في إيصال الناس إلى بيوتهم، قبل آذان المغرب، وفق ما نقلت مصادر إعلامية محلية.

لن نكرر كل ما ورد في مقالنا المشار إليه أعلاه، إذ يمكن العودة إلى محتواه، حيث حمل عنوان “النفط الإيراني إلى بانياس..قصّة ذات وجهين”. وفيه، خلصنا إلى نتيجة مفادها، أن نظام الأسد يلجأ في مواسم محددة، إلى خلق أزمة في سوق المحروقات، يصعّب خلالها الحصول على “المدعوم” من تلك المحروقات، كي يصرّف محروقات “إيرانية”، تُباع بأسعار مرتفعة للغاية عبر السوق السوداء، التي يكون هو المورّد الرئيس لها.

وفي نيسان/أبريل الجاري، تتكرر القصّة ذاتها. التي حدثت في نيسان/أبريل من الأعوام 2019، 2020، و2021. لكنها تتزامن هذه المرة مع غياب مبرر قوّي للأزمة، في الوقت ذاته الذي تدهورت فيه الأوضاع المعيشية للسوريين، بصورة غير مسبوقة.

ففي العام السابق، كان المبرر الذي ساقته المصادر الرسمية التابعة للنظام، هي الأزمة التي نتجت عن جنوح سفينة “إيفر غيفن” داخل قناة السويس، مما عطّل خط الملاحة فيها 6 أيام، في نهاية آذار/مارس 2021. إلى جانب حرب الناقلات البحرية بين إيران وإسرائيل، التي كانت مستعرة خلال العام الفائت.

أما في نيسان/أبريل الجاري، فتغيب المبررات، باستثناء المبرر “التاريخي”، المتمثل في تأخر وصول التوريدات “نتيجة العقوبات والحصار الجائر المفروض على البلاد”، وفق المصادر الرسمية التابعة للنظام. وهو مبرر لا يوضح سبب توقيت الأزمة، ما دامت الذريعة التي يتم اعتمادها، مُستدامة. فلماذا الآن بالتحديد؟

لا توجد إجابة. لذا، نستطيع أن نذهب إلى تصوّرٍ مفاده، أن موسم الصيام والعيد، حيث تتضاعف حوالات المغتربين والمهجّرين لأهاليهم في الداخل السوري، يُسيل لُعاب مُصمّمي الأزمة، كي يستفيدوا من وجود قوة شرائية فائضة بين أيدي السوريين.

هذا التصور الذي يخلو من “النيّة السليمة” حيال النظام، لا تجده لدى كاتب هذه السطور فقط. بل قد تقرأه في صفحات ومواقع إعلامية موالية أيضاً، تلمّح لذلك، وإن بصورة غير مباشرة، خشية السطوة الأمنية. فهي تتساءل بكثافة اليوم: لماذا يختفي البنزين المُتاح بسعر التكلفة، ويشح البنزين المدعوم أو يكاد يختفي، فيما يتوافر البنزين بكثرة في السوق السوداء؟! تجيب تلك المصادر ذاتها، أن الأزمة مفتعلة ويقف خلفها تجار ولصوص أزمات مرتبطين بجهات عليا، بغرض تحقيق أرباح مالية طائلة. لكن المصادر الإعلامية الموالية لا تجرؤ على تسمية تلك “الجهات العليا”. أما إذا انتقلتَ إلى مصادر إعلامية معارضة، فستجد تسمية مباشرة لتلك “الجهات”. إذ قبل أيام، نقل موقع “صوت العاصمة”، خبراً مفاده، أن الفرقة الرابعة، التي يقودها شقيق رأس النظام –ماهر الأسد-، منعت تزويد العديد من المناطق بدمشق وريفها، بمادة “البنزين أوكتان 95″، التي تُباع بسعر التكلفة، وليس بالسعر المدعوم.

وقال الموقع، إن الفرقة التي تسيطر على تجارة هذه المادة، أتاحت توزيعها في بعض مناطق ريف دمشق الغربي، مما اضطر أصحاب السيارات بدمشق وبعض مناطق الريف الأخرى، للتوجه إلى مناطق “الديماس ويعفور والصبورة”، للحصول على البنزين، بعد أن قفز سعر الليتر في السوق السوداء إلى نحو 7500 ليرة سورية.

أما اللافت في الأمر، فهو ذاك “التعاضد” بين “الفرقة الرابعة”، وبين حكومة النظام. ففي مطلع الشهر الجاري، قررت الشركة السورية لتخزين وتوزيع المواد البترولية “محروقات”، زيادة الفترة المحددة لتسلّم مخصصات مادة البنزين للسيارات العاملة عليها، إلى 10 أيام للسيارات الخاصة بدلاً من 7، وإلى 6 أيام للسيارات العمومية بدلاً من 4، وإلى 10 أيام للدراجات النارية. وبالتوازي مع قرار إطالة المدة بين التعبئة والأخرى، قلّصت شركة “محروقات”، الكميات المتاحة، بنسبة تقترب من الثلث في بعض المحافظات، وذلك بإقرار صحيفة “الوطن” الموالية.

وعلى غرار ما حدث في نيسان/أبريل من العام الفائت، صدرت تطمينات متتالية من مصادر إعلامية مقرّبة من النظام، عن قرب وصول ناقلات نفط، وأن الأزمة في طريقها للحل. لكن تلك التطمينات كانت أكثر صراحة –أو وقاحة ربما-، هذه المرة. فهي تحدثت عن أن الأولوية ستكون لـ بنزين أوكتان 95، المُباع بسعر التكلفة، وليس بالسعر المدعوم، والذي سيوزّع قبل العيد. مع وعود بأن باقي أصناف المحروقات ستتوافر بعد العيد مباشرة.

تلك “البشارات” التي تداولتها مصادر موالية، مجرد “تسكين” مؤقت لوجع السوريين، في أيام صيامهم المرهقة، حيث يكتوون بنيران الغلاء وفقدان المحروقات وأزمات النقل، فيضطرون لاستنزاف ما يصلهم من حوالات، لتعبئة جيوب “تجار أزمات”، لا يجرؤ الإعلام الموالي على تسميتهم، لكن السوريين يعرفونهم جيداً.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا