ولادة ثانية متعثرة لسورية

وُلدت سورية أول مرة في ظروف قهرية تحت الانتداب الفرنسي الذي رسم خريطتها المشوهة، وفق اتفاقية سايكس بيكو، بحدود متأزمة مع كل جوارها، تركيا ولبنان والأردن والعراق. وعانت منذ نشوئها أزماتٍ عديدة، منها أزمة الشرعية والهوية والاستقرار السياسي، ما جعل معظم السوريين يتخبّطون في تحديد عمقهم الوطني، بين من يمدّ يده إلى الوراء (الإسلاميون) متمسّكاً بهوية الخلافة الإسلامية، ومن افترض وجود سورية جزءا أو قطرا من دولة الأمة العربية (القوميون)، أو أنها واحدة من مناطق سوريا الكبرى (القوميون السوريون).

ولم تكن تلك التبعيات السياسية وحدها السبب في غياب وحدة التصور لسورية الدولة، بل اكتسى هذا التأزّم ببعد آخر، هو التأزم الهوياتي، وذلك بسبب فقدان جميع السوريين المتنوعين في إثنياتهم وطوائفهم ومذاهبهم الدينية ثقتهم بالعقد الاجتماعي الذي يجمعهم تحت سقف وطنهم مواطنين متساوين وأحراراً، ما جعل نار الخلافات الإثنية “المتّقدة تحت الرماد” تنمو مع أول فرصة متاحة للانفلات من قبضة الأمن في ظل الثورة السورية (2011).

ويمكن إرجاع الخلافات إلى أسباب عميقة: منها تغوّل الأجهزة الأمنية وتصلب الدولة المركزية، والافتقاد لحقوق المواطنة المتساوية، والشعور بالظلم التاريخي والجغرافي منذ تأسيس سورية بخريطتها ما بعد الاستقلال، وخلال الحكم الشكلي لكل الدساتير التي صاغتها الأنظمة، وبقيت حبراً على ورق، سواء في ظل الاحتلال من دستوري 1920و1928 ودستوري ما بعد الاستقلال 1950 و1952 ودستوري حكم نظام الأسد الأب والابن 1973 و2012.

ولا تختلف الولادة المنتظرة لسورية ما بعد الثورة الشعبية 2011، والمستمرة في عامها العاشر، عن سابقتها، حيث يقيد الاحتلال المتعدّد لأرضها ملامح سورية المستقبل، سواء من حيث حدودها الجغرافية أو بنيتها الديمغرافية، على الرغم من كل التصريحات المتداولة حول وحدة سورية أرضاً وشعباً، حيث ما أوقعته الحرب الطويلة من خسائر على صعيد بنيتها الاجتماعية يفوق بكثير خسائرها في بنيتها وبنيانها العمراني، ما يضع مسؤولياتٍ مضاعفةً على السوريين، على الرغم من خروج العامل السوري من معادلة الحل، بشكله المتمثل بإنهاء الصراع المسلح في سورية وعليها، أي أن الدور الأساسي للمجتمع الدولي أو للأمم المتحدة هو، فقط، بنزع فتيل الحرب بين أذرع الدول بصورتها المباشرة، أو تلك التي تحت الغطاء المحلي السوري، سواء في النظام أو المعارضة. ما يعني أن التفاصيل الداخلية للحياة السورية لن تكون أولوية للمجتمع الدولي، وكذلك لن تكون للمتفاوضين من أمراء الحرب السوريين أو السياسيين (المعينين خارج إرادة الشعب) على الجانبين، النظام والمعارضة.

حيث تؤكد التجربة أننا أمام متنافسين على السلطة، وليس على خدمة العمل الوطني، إذ تسود ظاهرة الاستئثار بالمناصب والامتيازات وهدر معالم تداول السلطة حتى في أضيق حدودها في كيانات المعارضة، وكأنه الشره للحكم في نسخة مشوّهة لما يحدث في نظام الأسد.

يستوجب هذا الحال فعلياً صناعة شكل جديد للعمل السوري التشاركي الذي يضع في أولوياته تفاصيل سورية المستقبل، لتكون جامعة للسوريين، وليست محاصصةً بين أطراف الأمر الواقع، من دون “توهماتنا” بأن هذا العمل يمكن أن يسبق حالة الاتفاق الدولي على بدء الحل في سورية، ومن دون أن نعتقد أن هذا العمل يمكنه أن يكون بلون سوري واحد، أو لمجموعة أو حزب واحد، سواء تحت مسميات الأحزاب “الديمقراطية” أو “الإسلامية”، أي أن فكرة أن سورية ستنحاز إلى فئة حزبية واحدة مجرّد قفز في الهواء. لذلك ما يمكن أن نبني عليه هو وجود عقد اجتماعي تكون سورية، الدولة، ديمقراطية وعلمانية ومتعدّدة القوميات، أي تستوعب الجميع وفق نصوص دستورية وقوانين ناظمة تساوي بين السوريين، أفرادا وجماعات.

تضييق العمل، وتحديده على أن سورية ملك لفئة دون أخرى يقودنا من استبداد نظام الأسد إلى استبداد الإسلاميين، أو استبداد المجموعات الأخرى، الساعية إلى السلطة تحت أي مسمّى، حيث الديمقراطية ليست اختصاصا، ولكنها حياة يتوجب الدفاع عنها بمشاركة الجميع ومن أجل الجميع.

ولعل من أجل سورية ديمقراطية لا بد أن يكون العمل على مجموعة قضايا، ووضعها فوق الطاولة، ومناقشتها بين كل شرائح السوريين، على اختلاف بعدهم الأيديولوجي والإثني، والمراهنة على أن أساس الانتقال السياسي هو مكانة “المواطنة السورية المتساوية”، وأن الشعب هو مصدر السلطات. ولهذا لا بد من استعادة قيم النظام الجمهوري التي غابت فعلياً عن واقعنا، وبقيت مجرّد عنوان من غير مضمون “جمهورية”، حيث يقوم المصطلح على أسس عدة، أهمها: إنهاء الحكم المطلق. وسيادة الشعب وعدّه مصدر السلطات. والفصل بين السلطات الثلاث، التشريعية والقضائية والتنفيذية، واستقلال كل واحدة منها في مجالها. وشرعنة المكانة الحقوقية والسياسية للمواطن الفرد، القائمة على مجتمع من الأفراد المواطنين والأحرار والمستقلين عن أي انتماءات جمعية أخرى، في إقليم ـ دولة يشكلون فيها الأمة. والتداول على السلطة.

ولعل النظر في واقع سورية التي عرفناها منذ الاستقلال يؤكد أنها لم تعرف من “الجمهورية الحديثة” إلا لصق هذه الصفة بكل ما يُخالف معناها. وعليه، مسؤوليتنا، نحن السوريين، استعادة جمهوريتنا، والتأسيس على قيمها، وهي وظيفة السوريين من خارج الأجندات الإقليمية والدولية. وما لم نسع إلى تثبيت هذه القيم، بإجماع السوريين واجتماعاتهم، لجسر خلافاتهم وفتح قنوات الحوار بين مكوناتهم، فإن الحديث عن باقي التفاصيل السورية، مثل شكل الحكم رئاسيا أو برلمانيا أو أن سورية دولة مركزية أو فيدرالية، سيكون كله مجرّد فتٍّ خارج الصحن السوري، وكل الوعود التي تقدّم بهذا الشأن ستكون حبرا على ورق، كحال دساتير سورية الستة “المغيبة”.

الدستور المأمول لسورية، والذي يمكن أن يولد من لجنة دستورية تتنافس أطرافها على بسط نفوذها وتغييب إرادة شعبها، لن يسهم إلا في ولادةٍ جديدةٍ متعثرة لسورية المستقبل، لا تشبه سورية التي يمكنها أن تجمع كل السوريين تحت صفة المواطنة الحرّة في بلد يحفظ كرامتها وحقوقها.

المصدر العربي.الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا