ارتفعت الأسعار في أسواق المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري، خلال ستة أسابيع فقط، بنسب تتراوح ما بين 35 إلى 50%، وتراجعت قيمة الليرة السورية بنسبة 25%، وتفاقمت طوابير المحروقات مجدداً مع خفض مخصصات المحافظات من البنزين بنسبة 15%، ومن المازوت بنسبة 20%، بالتزامن مع استمرار طوابير الخبز بمعدل وقوف يتراوح ما بين 5 إلى 7 ساعات يومياً، للحصول على ربطة بالسعر الرسمي المدعوم. وفي خضم كل ما سبق، قررت سلطات النظام اعتماد البلطجة للسطو على السيولة المتاحة من الدولار في السوق، بذريعة “ضبط الكاش”، وذلك عبر حملات أمنية واسعة على شركات ومكاتب الصرافة والحوالات في حلب، بصورة أساسية، وفي مدن سورية أخرى، منها العاصمة دمشق.
وتُقدَّم حملات البلطجة تلك، تحت عنوان مواجهة أزمة انهيار سعر صرف الليرة. فسحب السيولة المتداولة في السوق، ستسمح لمصرف سورية المركزي بضبط سعر الصرف، حسبما تُخبرنا صفحات “فيسبوكية” مؤيدة. بطبيعة الحال، السيولة المالية المُصادرة، تأتي من حوالات المغتربين والمهجّرين إلى أهاليهم في الداخل، والتي تشكّل اليوم العون الرئيس المتبقي لشريحة كبرى من سوريي الداخل، والتي تسمح لهم بالصمود في مواجهة الجوع الذي تنذرهم به أسعار السلع الأساسية المتاحة في الأسواق. أما كيف ستكون نتائج هذا الإجراء الأمني على سعر الصرف؟ الجواب نجده في حصيلة التجارب السابقة التي لا تُعد. فالنظام سبق أن اعتمد إجراء كهذا مراراً خلال السنوات القليلة الفائتة، آخرها كان في حملتين كبيرتين خلال عام 2020، إحداهما كانت بالتزامن مع صدور مرسوميَ تجريم كل من يروّج لأسعار صرف غير رسمية، وتشديد عقوبات التعامل بغير الليرة السورية، في مطلع العام 2020. والحملة الأخرى كانت خلال حزيران/يونيو الفائت. وفي التجربتين، كان سعر صرف الليرة السورية يتحسن أو يستقر بشكل مؤقت فقط، قبل أن يواصل مساره نحو المزيد من الهبوط. أي أن هذا الإجراء الأمني لم يُمثّل طوال السنوات الفائتة، حلاً مُستداماً لأزمة تدهور سعر صرف العملة المحلية. لكنه في الوقت نفسه، تسبب بأضرار للشريحة المستفيدة من حوالات أقاربهم في الخارج، والتي أخذت بالاتساع، حتى باتت تشكل اليوم، غالبية سوريي الداخل. وتلك التقديرات يمكن سماعها من أي مصدر محلي رسمي أو مستقل، رغم غياب أي إحصاءات رسمية أو موثوقة بخصوص نسبة المستفيدين من الحوالات الخارجية.
ويكفي أن نعلم أن قيمة الحوالات الخارجية كانت تشكل 2% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي لسوريا، قبل عام 2011، والذي كان يُقدّر حينها بنحو 60 مليار دولار. لكن هذا الرقم هبط حتى العام 2017 إلى 17 مليار دولار، مما يعني نظرياً على الأقل، أن مساهمة الحوالات الخارجية في الناتج المحلي قفزت إلى 8%. وإن كان من الصعب اليوم تحديد كم أصبحت النسبة الأخيرة، إلا إنه يمكن الجزم بأنها باتت أعلى بكثير. يكفي التذكير بتقديرات خبراء اقتصاديين، مؤيدين للنظام، تحدثوا مراراً عبر وسائل إعلام داعمة له، تذهب إلى أن حصيلة الحوالات الخارجية سنوياً، تصل إلى ما بين 1,5 و2 مليار دولار، بوسطي 5 مليون دولار يومياً.
وبناء على الأرقام الأخيرة، يمكن أن نتصور كم كانت قيمة السيولة المالية من الدولار، ومن عملات أخرى، التي استولى عليها النظام، خلال أسبوع فقط، من حملاته الأمنية على تجار العملة والحوالات في مختلف المدن السورية. هذه القيمة بالضبط، هي بيت القصيد، من هذا الإجراء الأمني، الذي لا يحمل أثراً مفيداً بصورة حقيقية للمواطن السوري، بل يضرّ بغالبية السوريين، وبشكل مباشر، إذ أنه يدفع سماسرة السوق السوداء للحوالات إلى رفع عمولاتهم، وتخفيض أسعار صرفهم للدولار القادم من الخارج، بذريعة تعويض المخاطر الأمنية المتزايدة. وهذا ما تم رصده مؤخراً في ريف دمشق على الأقل، إذ رفع بعض السماسرة عمولاتهم على الحوالات إلى أكثر من 8%، وفق مصادر محلية.
الإجراء الأمني الذي اعتمده النظام، كما سبق وأشرنا، يدفع في كل مرة تجار السوق السوداء إلى تخفيض أسعار صرفهم لـ “دولار الحوالات الخارجية” وهو ما ينعكس انخفاضاً بالفعل على سعر صرف الدولار في السوق. وهنا يقدم النظام ذلك بوصفه إنجازاً، متجاهلاً جانبين، الأول أن هذا الانخفاض في سعر صرف الدولار يكون قصير الأمد، أما الثاني، وهو الأهم، أن مُتلقي الحوالات الخارجية يدفعون الثمن، حينما ينخفض سعر صرف دولاراتهم المحولة، من دون أن ينعكس ذلك، على أسعار السلع في الأسواق، التي ترتفع مع ارتفاع الدولار، لكنها لا تنخفض مع انخفاضه. أي أن النظام يخفّض القوة الشرائية المتاحة لهذه الفئة الكبيرة من السوريين، كمحصلة أخيرة لإجرائه الأمني.
وفيما تقف الحوالات كحاجزٍ أخيرٍ بين سوريين كُثر، وبين خطر الجوع، بكل ما تعنيه الكلمة الأخيرة من معنى، يراهن النظام على جمع ما يستطيع من سيولة، تسمح له بترميم خزينة المركزي من جانب، وتمويل جيوب عناصره في الأجهزة الأمنية المرافقة لتلك الحملات، من جانب آخر. أما بالنسبة لخطر اندلاع ثورة جياع في سوريا، فذلك آخر ما يخشاه النظام، ما دام يملك القدرة على إشباع مرتزقته داخل الأجهزة الأمنية والميليشيات المسلحة الموالية، وفرق النخبة الطائفية في الجيش. فهو لا يخشى انفراط عقد هذا الحِصن بعدما خَبِر كيف يبيح له كل موبقات “التعفيش” و”الترفيق” و”السطو” على ممتلكات السوريين، على مدار سنوات الصراع المسلح، بصورة تسمح بتمويل ولائه المطلق له.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت