يبدو أن الضربة الأميركية، الأولى في عهد الرئيس جو بايدن، في الشرق الأوسط، والتي استهدفت مليشيات عراقية داخل سورية، ستبقى مثار تحليلات وفرضيات كثيرة، ليس لأنها الأولى، ولكن لأن الهدف والمكان يثيران الشهية لتساؤلاتٍ عديدة تحاول أن تجد لها إجابات شافية، فهذه الضربة التي استهدفت مليشيا حزب الله العراقي، بحسب تصريح المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية، جون كيربي، جاءت بعد أيام قلائل من هجوم صاروخي، استهدف قاعدة حرير الأميركية قرب مطار أربيل شمال العراق، وأصيب فيه متعاقد أميركي وعراقيان، أعقبه بيومين هجوم آخر على محيط السفارة الأميركية في بغداد، وهو ما دفع إدارة بايدن إلى الرد على الهجومين، إلا أن اختيار سورية مكاناً للرد يشي باستراتيجيةٍ أميركيةٍ مختلفةٍ في التعامل مع أزمات المنطقة عموماً، والعراق بشكل خاص.
مثّل استهداف قاعدة حرير في أربيل، ومحيط السفارة الأميركية في بغداد، أول تحدٍّ للإدارة الأميركية الجديدة، فهي على الرغم من موقفها المعلن بأهمية العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، إلا أنها لا تريد أيضاً أن تظهر كأنها ضعيفة أمام إيران ومليشياتها التي تسيطر على العراق. ولعل من أهداف الضربة الأميركية التي استهدفت مليشيات عراقية في سورية توجيه رسالة إلى طهران أولاً، بأن الإدارة الجديدة قد لا تكون الحمل الوديع الذي سيرضى بما ترغب به إيران، بل يمكن أن تكون أكثر قسوةً، فقد أعلن بايدن، عقب تلك الضربات، أن على إيران أن تحذر.
قوبل الهجوم على مليشيا حزب الله في الأراضي السورية بردة فعل إيرانية روسية سورية رافضة مثل هذه الضربات، وغير معتادة ربما، فقد كان هناك إجماع على رفض هذا القصف والتحذير من تكراره، وكأنها المرّة الأولى التي يتم فيها استهداف هذه المليشيات، ما يؤكد أن هناك خشية إيرانية بدأ منسوبها يرتفع؛ من طريقة تعامل هذه الإدارة مع ملفات المنطقة، وفي مقدمها الملف العراقي الذي تعتبره طهران إيرانياً بامتياز. والسؤال: لماذا اختار بايدن سورية لتوجيه رسالته إلى إيران ومليشياتها في العراق؟
يبدو أن الإدارة الجديدة في البيت الأبيض أكثر حنكة ودراية بتعقيدات الملف العراقي من سابقتها، أو قل أكثر خبرة وحكمة، حتى في التعامل مع هذا الملف المعقد، فبايدن ابن المؤسسة الأميركية العريقة والعميقة، وليس رئيساً طارئاً كسابقه ترامب، وسبق لبايدن أن شغل منصب نائب الرئيس خلال حقبة الرئيس باراك أوباما من العام 2009 وحتى 2017، وتربطه بساسة العراق علاقات واسعة، وهو يعرف أكثر من غيره أن الوضع العراقي لا يحتمل تعقيدات كثيرة. لذا عليه أن يحمل معه مبضع جرّاح، لا مطرقة حداد في رسم مساره بين طرق بالغة الحدّة والدقة في آن واحد.
اختيار سورية لتوجيه الرسالة الأميركية الأولى لإيران ومليشياتها في العراق يأتي ضمن ما يمكن أن يصطلح عليه “ثمن السيادة”، فبايدن لا يبدو أنه يريد أن يحرج حكومة مصطفى الكاظمي، من خلال قصف داخل الأراضي العراقية، قد يضعف موقف رئيس الحكومة، أكثر مما هو عليه الآن، وبالتالي كان اختيار سورية؛ التي تشهد يومياً تقريباً، عمليات جوية تستهدف مليشيات إيران أو قوات نظامية سورية، ينفذها طيران الاحتلال الإسرائيلي. كما أن بايدن أراد أن يمنح إيران ومليشياتها في العراق فرصة للتراجع عن مسار التصعيد الذي سلكته منذ عدة أسابيع، ليس في العراق وحسب، وإنما حتى في اليمن، في إطار مسعى طهران إلى تثيبت واقع جديد، يمكن أن يعزّز أوراقها في أي مفاوضاتٍ جديدة مع إدارة بايدن.
تبدو إيران على عجلة من أمرها، إنها تريد أن يحسم بايدن وفريقه الأمر، فإما تصعيدا ومواجهة أو مهادنة وعودة إلى الاتفاق النووي، لذا فلقد سعّرت مليشياتها في الأيام القليلة الماضية بقوة، غير أن لساكن البيت الأبيض الجديد رأيا آخر، فهو يرى ضرورة ممارسة أقصى درجات الدبلوماسية على طهران، من أجل أن تعود ليس إلى الاتفاق النووي القديم، وإنما إلى اتفاق نووي قديم متجدّد يحمل بين ثناياه اشتراطات أميركية عديدة تصر إيران على أنها ستكون مرفوضة.
عدم العجلة الأميركية في التعامل مع إيران هو أحد الأسباب التي دفعت واشنطن إلى اختيار مكانٍ للرد على المليشيات الإيرانية، فكانت سورية مكاناً للرد. صحيح أن لإيران مصالح في سورية، ومليشيات مسلحة، إلا أنها تبقى محكومة بالحامي الأول؛ روسيا، المتفاهمة مع تل أبيب على استهداف تلك المليشيات من وقت إلى آخر. بينما الحال في العراق مختلف، فإيران لا ترى العراق إلا جزءًا من حدودها، وهي لا تتردّد في التصريح بذلك، حتى وصل الحال بالسفير الإيراني في بغداد، إيرج مسجدي، إلى أن يطلب علناً من تركيا الكفّ عن التدخل في الشأن العراقي، ما أغضب رئيس البرلمان العراقي، محمد الحلبوسي، الذي طالب، في تغريدة، سفراء الدول الأجنبية في العراق بأن يلتزموا حدود العمل الدبلوماسي.
دخل بايدن العراق من بوابة سورية لدعم حكومة مصطفى الكاظمي، وعدم إحراجها، خصوصا وأنها هي التي قدمت لواشنطن المعلومات الاستخباراتية اللازمة لتنفيذ العملية، فهل سيكون بايدن أكثر دعماً لحكومة بغداد ليتخذ منها حائط الصد الأول لمواجهة نفوذ إيران المتزايد؟ وهل تقوى حكومة الكاظمي، أو من سيأتي بعده؛ على القيام بمثل هذا الدور؟ ربما؛ خصوصا إذا ما علمنا أن هناك رغبة من فريق داخل الحكومة والعملية السياسية، بضرورة تحجيم نفوذ إيران، لكن هذا الفريق يخشى المجازفة، إلا في حال تأكد له أن هناك دعما أميركيا حيال أي خطوة مستقبلية.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت