ما بعد أوكرانيا وما بعد بعد أوكرانيا

خالف الأوكرانيون التوقعات الغربية، لا الروسية فحسب، فلم تسقط كييف خلال أسبوع من بدء الغزو الروسي. السقوط مؤجل فحسب، والخطط التي تتحدث عن حكومة أوكرانية تسيطر على شريط في غرب البلاد، أو حكومة في المنفى بلا أراضٍ تسيطر عليها، هذه الخطط تكشف عن التسليم لبوتين بتحقيق هدفه المعلن في المدى القريب. الحديث الحقيقي الآن هو عن ما بعد أوكرانيا، عن الخطوة اللاحقة على الاحتلال الروسي.

قبل يومين صرّح وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن، في مؤتمر صحفي خلال زيارة إلى مولدوفا، أن بلاده تعمل جاهدة للتوصل إلى اتفاق مع بولندا، تزود بموجبه الأخيرة أوكرانيا بطائرات ميغ “الروسية” مقابل الحصول من واشنطن على طائرات إف16. أضاف الوزير أنه لا يستطيع تحديد جدول زمني للعملية، لكن بلاده تسعى إليها بشكل نشط. وكانت الأخبار من برلين قد كشفت عن صواريخ ستريلا فاسدة من الحقبة السوفيتية، من ضمن شحنة إضافية تقرر إرسالها لدعم الصمود الأوكراني. قد يصح القول أن جزءاً من الدعم الغربي بالأسلحة الروسية المعروفة لكونها لا تحتاج تدريباً، إلا أنها أيضاً مكشوفة جداً من قبل المهاجمين الروس، فضلاً عن تقادمها التقني بالمقارنة مع أسلحتهم.

صحيح أن الاجتياح الروسي تباطأ بفعل المقاومة، والصحيح أيضاً أن الاستجابة الغربية أتت متباطئة أيضاً، وبحيث لا تخرج عن الإطار المرسوم منذ أيقنت المخابرات الغربية أن الغزو سيحدث. ما تعزز أكثر من قبل ربما هو التعويل على مقاومة شعبية تلي الاحتلال، وبحيث يُطوَّق بوتين بها من جهة، ومن جهة أخرى بالعقوبات الغربية، وبهما يصطدم سقف طموحاته التوسعية. لقد دخل الدب بقدميه إلى القفص، ولن يخرج منه بعد الآن؛ ذلك بحسب الظن الغربي الرائج حالياً.

شروط بوتين لوقف الحرب لم تتغير، ويمكن اختصارها باستسلام أوكرانيا التام، أي إلقاء السلاح وتركه يستكمل الاجتياح بلا مقاومة. لم يكترث بخسائر جيشه غير المتوقعة، وعدم اكتراثه لا يخرج عن المألوف، وحتى لو تضاعفت الخسائر مرات عديدة فلن يثنيه ذلك عن عزمه. ثم إن إجراءاته في التضييق على الإعلام الروسي، واعتقال آلاف المتظاهرين المنددين بحربه، تعطيان إشارة عن كيفية تعامله مع المحتجين الروس لاحقاً إذا تظاهروا على خلفية الضائقة التي ستخلّفها العقوبات الاقتصادية.

وجّه بوتين تهديدات صريحة للدول التي ستساعد على خرق سيطرته التامة على الأجواء الأوكرانية، وفي طليعة الدول المهددة بولندا التي قد تصبح جارته إذا أتم جيشه مهمته في الاحتلال. أيضاً، سلوك بوتين الداخلي وتهديداته فيهما الكثير مما بعد أوكرانيا، فيهما الإعداد لتحمّل طويل الأمد للعقوبات، والإعداد في الوقت نفسه لعدم التراجع عن جعل أوكرانيا تابعة له. هو يعلم أن الإمدادات الغربية الحالية، عبر بولندا، لن تعيقه عن التقدم، وعينه على اليوم التالي حيث لا ينبغي لبولندا أن تبقى ممراً للإمدادات تحت طائلة دفع الثمن.

يدرك بوتين جيداً أن المناخ السائد لدى الرأي العام الغربي مناهض للحرب عموماً. فورة التعاطف الحالية مع أوكرانيا ستنحسر بعد أن ينجز بوتين أهدافه فيها، وتفقد حرارتها لتتحول إلى قضية مزمنة لا مكان لها في صدارة نشرات الأخبار. حتى التعاطف مع اللاجئين الأوكرانيين سيأخذ مساره المعهود، من الحفاوة إلى التذمر من كثرتهم، والبحث عن سلبيات البعض منهم لتعميمها على الباقين، ولن ينفعهم انتماؤهم الأوروبي الذي ركّز عليه البعض، فالعنصريون الذي أشاروا إليه سيعودون إلى عنصريتهم المزمنة، وعلى الأخص إلى تحميل اللاجئين مسؤولية الأزمات الاقتصادية التي ستتفاقم.

هناك ثمن اقتصادي للمواجهة، فوق الثمن المترتب على جائحة كورونا، يتعلق بزيادة أسعار الوقود والقمح وآثارهما على المعيشة عموماً. ما لم تكن هناك مواجهة حازمة غير متراخية مع الوقت، ستتغلب المصالح المباشرة لدى شرائح واسعة من الغربيين على أخلاقيات دعم أصحاب الحق الأوكرانيين. لن يكون هناك خوف من حرب عالمية ثالثة ليسند العوامل الأخلاقية، وسبق للغرب تاريخياً أن تحمل عواقب التوسع الروسي، يشهد على ذلك تدفق اللاجئين من بلدان كانت ضحية السياسات الروسية أو السوفيتية.

يظهر الغرب منذ بدء الاجتياح الروسي كأنه رسم خطوطه الحمراء، تاركاً لبوتين التحرك خارجها تحت طائلة أثمان ليس من بينها التصدي له عسكرياً. الخطوط الحمراء هي حدود الناتو، حيث هناك إلزام لدول الحلف بالتعامل مع ما يهدد أمن كلّ منها أو الأمن الجماعي. وكان بوتين نفسه قد اختبر ردود الأفعال الدولية إزاء توسعه خارج مظلة الحلف، في جورجيا وأوكرانيا وسوريا وليبيا، تُضاف إليها دول أفريقية ينشط فيها مرتزقة طباخ بوتين تمهيداً للتدخل العسكري الرسمي المباشر.

إذا لم تكن مواجهة بوتين شاملة فمن الصعب التعويل على نتائج حرب استنزاف أوكرانية على المثال الأفغاني، مسنودةً بنتائج عقوبات اقتصادية مشددة. في السنوات الافتراضية لتأثير العاملين السابقين، لن يهدأ بوتين، ومن المرجح زيادة شهيته إلى افتعال الحروب في أنحاء متفرقة حيث لن يتدخل الغرب للتصدي له، وستكون مهمة إشعال بؤر التوتر ابتزازَ الغرب للتهاون على جبهتي أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية.

في الأيام الثلاثة الأخيرة برز مثالان على ما يمكن لبوتين استغلاله للمقايضة، فرئيس الوزراء الإسرائيلي طار يوم السبت إلى لقائه للوساطة في الحرب حسبما أُعلن، لكن في الخلفية هناك التفاهم الإسرائيلي-الروسي في سوريا، وتل أبيب لا تريد مواجهةً على حساب تصديها لإيران في سوريا. ثمة نقطة تلاقٍ مؤقتة ظهرت مؤخراً، وقد لا تكون مؤقتة بمعنى أنها ربما تعكس موقف موسكو الحقيقي، هي عدم رغبة تل أبيب في عودة الاتفاق النووي مع إيران، ومحاولة موسكو عرقلته باشتراط العودة إليه بإعفائها من عقوبات فُرضت مؤخراً بسبب العدوان على أوكرانيا.

يبدو الحدث الأوكراني اليوم متأخراً عما هو مُعَدّ ومنتظر، إذ ينهمك الساسة الدوليون في ما بعد أوكرانيا وربما ما بعد بعد أوكرانيا. وإذا كان من حقبة جديدة حقاً في العلاقات الدولية فلن نشهد دلائل عليها في أوكرانيا فقط، الدلائل الأقوى ستكون إذا طرأ تغير في المواقف الغربية من قضايا أخرى كانت إلى الأمس القريب ليست مثار خلاف بين الغرب وموسكو. التعامل مع بوتين بوصفه حاجة ومشكلة؛ هذه وصفة استُنفذت، والإصرار على تكرارها سيجلب هنا وهناك قضايا محقة للتضامن، ثم للنسيان.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا