أوكرانيا وسوريا في لعبة الدب الروسي

في الأسبوع الأخير من فبراير (شباط) الماضي، انطلقت القوات الروسية متوغلة في الأراضي الأوكرانية، وبدأت حرباً دخلت شهرها الرابع من دون أن تحمل أي مؤشر على قرب نهايتها، وخلقت بيئة من الصعب التكهن بنتائجها، وهذه بين مؤشرات، دفعت البعض للقول: إن ما سيكون بعد اجتياح أوكرانيا، لا يماثل أبداً ما كان قبلها، وهو قول يماثل ما قيل قبل عقد من سنوات بدأت مع الانفجار السوري في ربيع عام 2011 والذي لا شك أن تطوراته، كانت بين أسباب شجعت الاجتياح الروسي ومهدت له، بل إنها طورت سياسات موسكو العملية في أوكرانيا وحولها، ووضعت القضية الأوكرانية في السياق ذاته، الذي تسير فيه القضية السورية رغم التمايزات القائمة بين الحالتين.

والتشابه الأوكراني – السوري يستند في أحد جوانبه إلى خلفيات التدخل الروسي في البلدين، والتي تقوم على فكرة التمدد الخارجي في مناطق لها مكانة وخصوصية في استراتيجية وسياسات روسيا، ووسط سعي موسكو إلى تأكيد وجودها ونفوذها في مناطق تعزز مصالحها السياسية والاقتصادية والعسكرية وفق ما يرى الروس في سوريا بالنسبة لـ«الشرق الأوسط»، وأوكرانيا بالنسبة لأوروبا والولايات المتحدة، وهو ما يشكل جوهر سياسات وجهود اشتغل عليها وقادها الرئيس فلاديمير بوتين على طريق استعادة مكانة روسيا في قيادة العالم عبر السير نحو تعددية جديدة في النظام الدولي، وقد تحكمت فيه الولايات المتحدة عقب انهيار الاتحاد السوفياتي وعالمه الاشتراكي منذ عام 1991.

لقد دققت موسكو سياساتها في الشرق الأوسط وفي شرق أوروبا في العقدين الأخيرين، وصار تركيزها أكبر بعد انطلاق ثورة السوريين عام 2011. التي أعطت الروس فرصة العودة القوية إلى سوريا بعد أن تراجع حضورها هناك بصورة ملحوظة مع نهاية الاتحاد السوفياتي، وكانت البداية في صمتها على جرائم النظام ضد السوريين، واستمرار تزويد النظام بالأسلحة والمعدات العسكرية، التي تحتل مكانة مهمة في تسليح وأداء جيش الأسد، وباستثناء ارتباط الموقف في سوريا بالاستراتيجية الروسية، فقد كانت موسكو ترى في موقفها السوري مدخلاً إلى تأثير روسي واسع في شرق المتوسط، يتجاوز سوريا ولبنان والعراق إلى دول إقليمية أهم فيها تركيا وإيران وإسرائيل ومصر، وهو تأثير يتجاوز المكاسب السياسية والاقتصادية والعسكرية – الأمنية باتجاه تكريس دور روسي قادر، أن يصير محورياً في نسج علاقات مصالح في محيط إقليمي متصارع تعصف فيه الأزمات، وتنهار دوله واحدة تلو أخرى من دون أن تستطيع قدراته البشرية والمادية الهائلة وقف الانهيارات.

وهذا الشق من الدور الروسي في شرق المتوسط، مما كان له أن ينمو ويتطور لولا استناد موسكو إلى تطورات موقفها في القضية السورية، حيث إن تأييدها ودعمها لنظام الأسد دعم قدراته في مواجهة الاحتجاج السوري وفي مواجهة حركة المعارضة المسلحة، وأضيف له دور في الأمم المتحدة، حيث منعت روسيا مجلس الأمن عبر الفيتو من اتخاذ أي قرار أو إجراء من شأنه محاسبة نظام الأسد على جرائمه، ولجمت قوى إقليمية ودولية، كانت تظهر بعض التأييد والتعاطف مع ثورة السوريين في مواجهة النظام، ثم توجت ما سبق بخطوة التدخل العسكري في سوريا في عام 2015 لمنع انهيار نظام الأسد، وبدء العد باتجاه استعادة سيطرته على مناطق واسعة، فقدها عبر عملية استعادة حلب من يد المعارضة المسلحة في بداية عام 2016.

جعلت روسيا سوريا ميداناً لتدريب القوات واختبار الأسلحة الروسية الجديدة، إضافة إلى جعلها قاعدة روسية بحرية وجوية، تنخرط في ترتيب وإدارة علاقات وحساسيات إقليمية – دولية، كان من أبرز حيثياتها: تحالف روسي من جهة مع نظام الأسد وإيران، وتحالف آخر مع إيران وتركيا في إطار أستانة، يرافقهما تأكيد علاقات روسيا الوثيقة مع كل من إسرائيل وإيران وتركيا رغم ما يظهر من تعارضات في سياسات هذه الدول في سوريا وعلاقاتها البينية، وكله بعض جهد روسي متواصل هدفه مزدوج؛ شقه الأول تجميع الدول قرب موقف موسكو، والشق الثاني، إضعاف وتشتيت أي توجهات إقليمية ودولية في الطرف الثاني من الصراع السوري.

ورغم فوارق كثيرة قائمة بين سوريا وأوكرانيا، فإن بعضاً من تشابه جمع البلدين، أو قارب بينهما في علاقتهما مع روسيا، وجعل سياسات موسكو حيال البلدين تبدو متقاربة، وصارت الخطوات الروسية في التعامل معهما متشابهة أيضاً، بل إن السياق المستقبلي في علاقات موسكو مع أوكرانيا، يكاد يكون مقارباً مسار علاقاتها مع سوريا، وأن الفروق في أغلب الأحيان، ليست جوهرية.

فالنظرة الروسية إلى أوكرانيا، تعتبرها امتداداً بل جزءاً من روسيا، خاصة وسط واقع أن جزءاً من الأوكرانيين من أصول روسية، وموسكو تعتبر أوكرانيا جزءاً من مجالها الحيوي، وخاصة في بعديه السياسي والاقتصادي، وموقع شديد الأهمية في أمنها القومي، مما يجعل روسيا ذات علاقة وثيقة بكل ما في أوكرانيا وصولاً إلى علاقتها الخارجية، وقد نظرت موسكو بحذر شديد لبعض التطورات الأوكرانية في العقد الماضي، كان بينها تصاعد نزعات انفتاح ديمقراطي لا يتوافق مع بنية وسياسات موسكو، وبينها أيضاً تقارب أوكراني غربي يؤشر نحو انخراط في حلف الناتو، مما صعّد خلافات الطرفين، عززت ميولاً أوكرانية قومية حيال موسكو، وعززت ميول روسيا لوضع اليد على أوكرانيا، فتوالت المساعي السياسية، قبل أن يقفز جنود موسكو على شبه جزيرة القرم ويبتلعوها عام 2014 وسط ردة فعل دولية وغربية غير جدية، مما شجع موسكو على تصعيد سياساتها، وخاصة في اتجاه تركيب نظام عميل لموسكو في كييف أو السعي نحو تقسيم أوكرانيا، وكلا الخيارين سوف يسهل من إحكام روسيا قبضتها السياسية والاقتصادية والعسكرية على هامش التماس مع الغرب وذراعه العسكري المسلح.

ولأن روسيا انشغلت بتطورات الوضع السوري بعد استيلائها على القرم، وتدخلها العسكري الواسع في سوريا، واعتبرت أن زيادة وزنها وتأثيرها في القضية السورية، يمكن أن يساعدها في حرب تشنها على أوكرانيا، وتثبت نتائجه سواء على نحو ما حدث في القرم وبعده في سوريا، فدفعت قوات لاجتياح أوكرانيا، قبل أن تصدمها الوقائع ليس فقط في الموقف العام المعارض لفكرة الاجتياح، بل في موقف التصدي الذي يخوضه الأوكرانيون ضد الجيش الروسي.

الروس اليوم، يسعون للتملص من العقوبات والاستيلاء على أوكرانيا، وفي الطريق إلى ما سبق، يتابعون حملات دعاوية عن حقوقهم، وعن تصديهم للإرهاب والتطرف «القومي»، ويسعون إلى تشتيت الموقف الإقليمي والدولي في مواجهة الاجتياح، وكلها أمور سبق أن تابعوها وما زالوا في سوريا من دون أن يحسم الصراع فيها، وهو أمر يمكن أن يمدد الصراع في أوكرانيا أعواماً طويلة.

المصدر الشرق الأوسط


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا