الأسد يدين نفسه بإصدار قانون تجريم التعذيب

في حركة بهلوانية، أثارت كثيرا من الدهشة والعجب، أصدر الرئيس السوري، بشار الأسد، قانونا جديدا يجرّم فيه التعذيب. وأخذت هذه الخطوة بعدا سُورياليا في هذه الفترة التي يتحدّث فيه العالم كلّه، إلا قليلا، عن جرائم نظام الأسد في الاعتقال، والإخفاء القسري، والتعذيب، والاغتصاب.

لم يمرّ معتقل واحد في سورية، إلا من رحم ربّك، من دون أن يتعرّض لتعذيب تراوح بين الجلد بالكابل الكهربائي الرباعي على القدمين، وهو أخفّ حالات التعذيب التي تلقّاها كاتب هذه السطور من جلّادي الأسد في زمن مضى، والشبح على السلّم أو بساط الريح أو الكرسي الألماني، أو التعليق من يد واحدة في سقف الزنزانة، كما حدث مع كثيرين أعرفهم شخصيا، وتربطني بهم صداقة أو زمالة أو قربى.

وعلّقتْ منظمات حقوقية سورية ودولية على آليات التعذيب وأعداد المعتقلين وطرق معاملاتهم. وبينما نفى الأسد نفسه أن يكون في سورية معتقلون سياسيون، ونفى النظام مرارا أن يكون قد مارس التعذيب على السوريين، تحدّث ناجون من معتقلات الأسد بالتفصيل لمنظمة العفو الدولية عن “دوامةٍ لا تنتهي من التعذيب”، سواء عند القبض عليهم أو عند ترحيلهم بين مراكز الاحتجاز، وذكروا أن التعذيب جزءٌ من “حفلة ترحيب” تسودها انتهاكات كثيرة عند الوصول إلى السجن. في بعض الحالات، يتعرّض السجناء للتعذيب كل يوم من أجل “خرق” بسيط لقوانين السجن، بما في ذلك التحدّث مع نزلاء آخرين أو عدم تنظيف زنازينهم، أو فقط لمزاج السجّان. فيما وثّق أحدث تقرير للشبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل أكثر من أربعة عشر ألف سوريٍّ وسوريّةٍ تحت التعذيب على يد النظام، بينهم 173 طفلًا و74 امرأة. ولا يزال مصير أكثر من 131 ألف معتقل في سجون النظام مجهولا.

عمليا، يبدو هذا القانون نكتةً سمجة من نظامٍ لا يجيد الهزل، فهو قد صدر عن مجلس شعبٍ معيّن لا يملك من أمره شيئا، ومعروفة طرق تعيين أعضائه. ويأتي أيضا والتعذيب لا يزال جاريا في مراكز الاحتجاز والاعتقال، وقبل أيام قليلة، قتل النظام تحت التعذيب المعتقل مهران رضا الخلف، من بلدة جاسم في ريف درعا، بعد اعتقال دام أكثر من أربع سنوات.

ولكن الأكثر مدعاة للتفسير الهزلي للقانون تعارضه مع قوانين سابقة له من دون أن ينصّ صراحة، كما يفترض، أن القانون الجديد يلغي كلّ ما يخالفه من نصوص سابقة. تنصّ المادّة 16 من المرسوم التشريعي 14 تاريخ 25/1/1969 مثلا على أنه “لا يجوز ملاحقة أي من العاملين في الإدارة (أمن الدولة) عن الجرائم التي يرتكبونها أثناء تنفيذ المهمات المحددة الموكلة إليهم أو في معرض قيامهم بها إلا بموجب أمر ملاحقة يصدر عن المدير”. بينما تنصّ المادة 74 من المرسوم التشريعي 549 تاريخ 25/5/1969 أنه “لا يجوز ملاحقة أي من العاملين في إدارة أمن الدولة أو المنتدبين أو المعارين إليها أو المتعاقدين معها مباشرة أمام القضاء، في الجرائم الناشئة عن الوظيفة، أو في معرض قيامه بها قبل إحالته على مجلس التأديب في الإدارة واستصدار أمر ملاحقة من قبل المدير”، والأغرب أن يكون القانونان ساريين من دون أن يُنشرا في الجريدة الرسمية.

والحال أنه ما لم ينصّ القانون الجديد صراحة على أن كلّ نصّ قانوني سابق عليه ومخالف له ملغىً، فسيكون القانون الجديد مجرّد فكاهة وقحة من نظام فجّ ووقح. وما لم يترافق مع جهود حثيثة لكشف مصير مئات ألوف المعتقلين والمختفين قسرا ومعرفة الحقيقة، والاعتذار والتعويض لكل الناجين وأسر الضحايا، وفتح السجون والمعتقلات للجان التحقّق والتثبّت الدولية، فإن القانون أرخص فعليا من سعر الورق الذي كتب عليه. ولنتذكّر أن النظام نفسه كان وقّع على معاهدة حظر التعذيب في عام 2004، لكن ذلك لم يجعله يتورّع عن قتل آلاف من السوريين في أقبية فروع الاستخبارات التابعة له، ووقّع على معاهدة حماية الطفل، لكنه دفن الأطفال تحت الركام في حلب وحمص والغوطة الشرقية.

ولن يكون ممكنا ألا نلتفت إلى أن تمرير القانون جاء في شروط سورية وإقليمية ودولية متغيّرة وعاصفة، وقد لا تكون مفهومة تماما للمراقب العادي، فداخليا تزداد نقمة السوريين على النظام، حتى بين الموالين له، في معاقله التاريخية، بسبب ارتفاع الأسعار وانعدام الخدمات بما فيها ماء الشرب والكهرباء والدواء. ونرى ارتفاع وتيرة السخط واضحةً بين السوريين في مناطق النظام، ما دفع الأخير إلى إصدار قانون الجريمة الإلكترونية للحدّ من حقّ السوريين في التعبير عن هذا السخط في الفضاء الافتراضي.

في المقابل، نرى الراعيَين الأساسيين للنظام مشغولَين، كل في مشكلته الخاصّة، فروسيا أوقعت نفسها، بغزوها أوكرانيا، في مستنقع يبدو الخروج منه غير ميسور، وها هي تسحب بعضا من قواتها من سورية للقتال في أوكرانيا. أما إيران فمشغولةٌ بمفاوضاتها مع الولايات المتحدة بشأن الاتفاق النووي، ونلمس تراجعا في اهتمامها بالساحة السورية.

في المقابل، تؤكّد واشنطن أنها لن تطبّع مع النظام السوري، وسمّت شهر مارس/ آذار بشهر المحاسبة، ولا تزال دول أوروبية تحاكم مسؤولين في النظام السوري بتهم التعذيب وجرائم أخرى ضدّ الإنسانية، فإذا استمرّت الأمور في السير في الاتجاه الراهن، فقد تلوح في الأفق إمكانية محاسبة النظام بأسره .. فهل يمكن تفسير صدور القانون الجديد خطوة استباقية لذلك؟ أم أنه ربما متعلّق أكثر بمحاولات إعادة تأهيل الأسد التي تقودها مصر والجزائر والإمارات؟ أم لعلّ الأمرين مرتبطان واحدهما بالآخر، وما زيارة الأسد أخيرا دبي وأبوظبي، وتصريحات أمين عام جامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، سوى خطوتين نحو إيجاد حلّ يقوم على أساس “لا غالب ولا مغلوب” في سورية.

للعالم أن يفكّر بما يرغب، وللحكومات أن تخطّط كما تشاء، ولكن الظنّ، أغلبَه، أن السوريين لن يقبلوا بحلّ تمّ تجريبه في العراق ولبنان وأماكن أخرى، وأثبت فشله الكبير في كلّ مكان. ولا يزال السوريون، في غالبيتهم، يسعون إلى حلّ يقوم على السلامِ بعد المحاسبة، والمصالحةِ بعد المساءلة، فيما يخصّ كبار المرتكبين، وحين يقول السوريون “كبار المرتكبين”، فهم على الأرجح يعنون الكبار فعلا. وحتى الآن، هم لا يرون في إصدار القانون الجديد سوى اعترافٍ من الأسد بارتكاب نظامه جرائم ضدّ الإنسانية، وهي جرائم لا يعفو عنها الزمن ولا تسقط بالتقادم.

المصدر العربي.الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا