الانتخابات السورية:تمثيل فاشل أم مقصود؟

ألا يعلم النظام السوري أن هناك من سيسخر من “انتخاباته” أو أن قطاعًا واسعًا من السوريين لا يصدِّقه، وأن حكومات الدول، المؤيدة له والمعارضة على حد سواء، تنظر إلى “انتخاباته” بوصفها مسرحية هزلية؟ بلى هو يعلم ذلك تمامًا، وربما أكثر من الجميع. السؤال الذي يفرض نفسه بناء على ذلك هو: هل كان بإمكان النظام تقديم “انتخاباته” بصورة أكثر إقناعًا، أو بصورة أكثر جدية، خصوصًا أن نتائجها مضمونة بنسبة مئة في المئة لمصلحته؟ نعم كان بإمكانه أن يفعل ذلك. إذًا لماذا يصرّ على تقديم نفسه بوصفه ممثِّلًا فاشلًا لا يتقن أداء دوره المسرحي، في لحظة يحتاج فيها إلى شيءٍ من الصدقية لإقناع السوريين ودول العالم كافة بأدائه؟

ماذا يريد النظام عندما يعرض إعلامُه مقابلاتٍ مع المترشِّحين الآخرين للرئاسة، ويُظهرهم أشخاصًا هامشيين غير معروفين حتى من جيرانهم في الأحياء التي يسكنون فيها؟ ألا يعرف النظام أن التقليل من قيمة وشأن المترشِّحين يقلِّل من صدقية “انتخاباته”؟ أليس من مصلحة النظام أن يقنعنا بأنه جادٌّ بعض الشيء في “انتخاباته”؟ أليس من مصلحته أن يقدِّم صورة مغايرة، فيصوِّرهم أنهم مرشّحون حقيقيون وأصحاب كفاءات، ما يعطي بعض الشرعية لانتخاباته التي يشكِّك فيها أكثرية أهل الأرض؟ هل هذا تمثيل فاشل أم مقصود؟ يعلم النظام أن الجميع يعرف أن “انتخاباته” لا تعدو كونها مسرحية، وليست انتخاباتٍ حقيقية، لكن لماذا يصرّ على إخراجها بصورة فاشلة؟ هل النظام مخرج أو ممثِّل فاشل فعلًا؟

لماذا يصرّ النظام على تقديم العملية الانتخابية على أنها مسرحية هزلية، على الرغم من أن نجاحه سيبقى محسومًا إن أعطى المترشحين الآخرين بعض القيمة، وقدّم العملية الانتخابية بصورة أكثر جدية قليلًا؟ لماذا يصرّ على تقديم مترشِّحين لا مؤهلات معقولة لديهم، ولا هم من ذوي التأثير السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي، ولا وجود لقوى سياسية أو منظمات مدنية داعمة لهم؟ أنا أميل طبعًا إلى أن النظام السوري أستاذ في الإخراج والتمثيل، ولا أحد يبزّه في هذا الأمر، وأن أداءه “الفاشل” مقصود.

منطقيًا؛ عندما يترشّح مواطن سوري لمنصب رئاسة الجمهورية، فهذا يعني بداهة أنه ينظر إلى نفسه على أنه أكثر كفاءة من المترشِّحين الآخرين، وأنه يؤمن بقدرته على القيام بأداء أفضل منهم، وأنه يختلف عنهم في السياسة أو الاقتصاد، ويعارضهم توجهًا وأداءً بهذا القدر أو ذاك، وأن لديه برنامج سياسي مختلف أو رؤية مغايرة في عددٍ من الأمور الحيوية، وأنه واثق بوجود فرص متساوية تتيحها إجراءات الترشيح والانتخاب والرقابة المعمول بها، وأن لديه الحرية في التنقل وعقد الاجتماعات والمؤتمرات مع السوريين، أما أن يكون جميع المترشِّحين للمنصب موالين للنظام القائم، ويسبِّحون بحمده، ويرفعون لواءه، ويدافعون عن خياراته، فهذه أمور لا تحدث إلا في بلاد العجائب. لماذا لا يسمح النظام لكومبارس المترشِّحين بأداء أدوار أكثر إتقانًا وإقناعًا ما داموا لا يملكون أي احتمال بالفوز؟

في محاولة الإجابة عن الأسئلة المنطقية السابقة يمكن أن نضع إجابات كثيرة، لكن لا بدّ من الإشارة أولًا إلى أننا عندما نطرح الأسئلة المنطقية السابقة ونجيب عنها باستخدام عقلنا نفسه الذي نعتقد أنه منطقي، لن نصل في الحقيقة إلى تفسير منطقي. فالإجابة عن هذه الأسئلة المنطقية تحتاج إلى فهم منطق النظام وتفكيره، أي تحتاج إلى أن نفكر قليلًا بعقل النظام ذاته، ومن ثمّ، بعد ذلك، نعيد تركيب وبناء المسألة كلها بعقلنا المنطقي.

ينبغي لنا أولًا ألّا ننفي وجود قطاع مهم صادق من موالي النظام، وهذا القطاع يستنكر أصلًا أن يسمح النظام لمرشحين آخرين بدخول العملية الانتخابية. هذا القطاع أكثر تطرفًا من النظام ذاته، كونه غير معني أصلًا بمراعاة أي ضغوط خارجية أو تقديم مجاملات شكلية وبسيطة جدًا، كما هو حال النظام. هذا القطاع من السوريين يدخل في حسابات النظام عند الإقدام على أي خطوة تتعلق بالوضع الداخلي. في الحقيقة، يستحيل تحرير هذا القطاع ودفعه إلى التقدم خطوة في اتجاه التفكير الحرّ إلا من خلال صدمة كهربائية؛ تعادل “غياب أو تغييب الأب” من منظور علم النفس.

يُضاف إلى ذلك أن النظام السوري، على ما يبدو، يخشى خيال الديمقراطية أيضًا وليس الديمقراطية نفسها فحسب، ولا يريد حتى تمثيل عملية انتخابات جدية بدرجة مقنعة نوعًا ما، على الرغم من أنه يتحكم فيها بصورة مطلقة ونتيجتها محسومة لمصلحته. إنه يريد بوضوح أن يسخر من فكرة الديموقراطية ذاتها، ومن الانتخابات ذاتها، وأيضًا من المترشِّحين الذين سمح لهم بالترشّح أو أمرهم بترشيح أنفسهم، ويرى أن دخول فكرة الديمقراطية والانتخابات إلى حيز التداول العام والفضاء السوري، ولو تمثيلاً، يمكن أن يشكل تهديدًا حقيقيًا لوجوده. بمعنى آخر، يدرك النظام أنه إذا خطا خطوة حقيقية ومنطقية في ما يتعلق بالانتخابات، فإنها ستتحول، بعد زمن ما، إلى حقٍّ للسوريين يمكن أن يبنوا عليه للحصول على حقٍّ آخر، في حين يريد هو أن يبقي “انتخاباته” في حيز “المكرمة” أو “العطاء” مثل سائر الأمور. أي أن أي تنازل يقدِّمه ربما يجبره على تنازل آخر مستقبلًا، وهذا سيفتح عليه أبوابًا كثيرة يصعب إغلاقها، وقد تهدِّده وتطيحه.

وأيضًا، تقوم تركيبة النظام على نفي وجود شخصية ثانية يمكن أن تشكل احتمالًا بسيطًا لأن تكون بديلًا، أو في الأحرى على وجود مسافة ضوئية بين شخص الرئيس الموجود في الحكم وأي شخصية سورية أخرى، موالية أو معارضة، ومن ثمّ يستحيل أن يقبل النظام بترشّح شخصية يمكن أن تعطي ملمحًا، ولو بسيطًا، باقترابها من موقع الرئاسة. لذلك، من مصلحة النظام فعلًا الإمعان في الإقلال من قيمة المترشِّحين الآخرين لموقع الرئاسة.

عندما ظهرت إحدى المذيعات السوريات على شاشة قناة الدنيا في نيسان/ أبريل 2011 لتقول إن السوريين تجمعوا من أجل شكر ربهم على نعمة هطول المطر، نافية تظاهرهم ضدّ النظام، ألم يكن النظام يعلم أن كلامها سيُقابل بالسخرية والتندّر، وهل كان هذا يصبّ في خانة الغباء الإعلامي؟ في اعتقادي، يرى النظام أن العمل على تسخيف القضية بطريقة غير مقنعة، حتى لو جلبت السخرية، سيكون أقل ضررًا عليه من توصيف الحقيقة الواقعية؛ مثلًا، التسخيف سيدفع بعض معارضي النظام إلى الانحدار، من حيث لا يعلمون، إلى مستوى يفرِّغ قضيتهم من مضامينها، أو ربما سيؤدي إلى بروز معارضين قادرين على التعامل مع المستوى المتدنِّي الذي يفرضه النظام، على حساب المعارضين العقلاء من الطبقة الرزينة إن جاز التعبير. سيحصل النظام من هذا الفعل، على أقل تقدير، على تسخيف القضية بكليتها، ومن ثم دفع كثيرٍ من معارضيه للتشارك معه في اقتراف القبح، وعندما يتساوى الطرفان في الرذيلة يميل الناس إلى الطرف الأقوى، لأن الفضيلة جرى تحييدها أو رميها.

اعتاد النظام، مثلًا، عندما لا يريد لأمر ما أن يحصل، على تصدير ناطقين باسمه أو مدافعين عنه، يتصفون بالحماقة أو السطحية أو التفاهة؛ فوجود مثل هذه الشخصيات كافٍ لتقليل أهمية الطرف الآخر، حتى لو كان “عبقري زمانه”، إذ سينجر الأخير عمليًا إلى ساحة “المهاترات” والصغائر والصراخ، أو سيصمت. و”الحكمة” هذه طبقها النظام أيضًا في بداية الثورة السورية عبر (قناة الدنيا) التي جرّت القنوات الفضائية كلها، تدريجيًا، إلى مستواها في الانحطاط. في الحقيقة، لا يرتبك العاقل أو الواعي إلا في حضور الجاهل، لأنه لن يستطيع التكهن بخطاب وأفعال الجاهل أو سيعجز عن مجاراته في الحماقة.

من جانب آخر، بالنسبة إلى النظام، لم يكن تصديق شعاراته وخطاباته وأعماله أمرًا مطلوبًا أو هدفًا له على المستوى السوري، في أي وقت؛ في الحقيقة، لم يكن لزامًا على السوريين أن يُؤمنوا بمقولاته، بل كان عليهم أن يتصرّفوا فحسب وكأنهم يؤمنون بها حقًا، أي أن يصطنعوا أو يمثِّلوا أنهم يقبلون بها، أو على الأقل أن يتقبلوها بصمت ويعيشوا بين طيات الأكذوبة. ومن خلال هذه الحقيقة الواقعية بالتحديد، كان السوريون يعزِّزون النظام، ينفِّذونه، يصنعونه، ويصبحون هم النظام.

تقول ليزا وادين في كتابها (السيطرة الغامضة)، في فصل بعنوان “كما لو أن”، إنّ السوريين يدركون، على الأرجح، الفجوة بين ما يعيشونه والادّعاءات والوعود الفارغة للنظام، ومع ذلك يعيش السوريون كما لو أنهم يصدِّقون ما يقوله، وبفعلهم هذا هم يرسِّخون وجود هذا النظام واستمراريته. لا تعتمد السلطة على تصديق الناس لأقاويلها، بل على سلوكهم القائم على التظاهر بالتصديق. لا يريد النظام من السوريين في الداخل اليوم سوى التظاهر كما لو أنهم يعيشون تجربة ديمقراطية، وأن يؤدوا أدوارهم التمثيلية بكفاءة في مسرحية انتخابات مسلية. هذا هو كلُّ المطلوب منهم.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا