“التكلفة القيمية” لجرائم الأسد في سوريا.. وانعكاسها في غزة

فيما يتم، شعبياً، وعلى نطاق واسع، تحميل دول عربية مُطبّعة مع الكيان الإسرائيلي، إلى جانب الدعم الغربي اللامحدود، خاصة، الأميركي، مسؤولية الجرائم التي يرتكبها الكيان ضد أهالي غزة، في هذه الساعات، يتحمّل، ما يُعرف بـ “محور المقاومة”، بالتوازي، مسؤولية مباشرة، في خلق ظروف نفسية وسياسية مؤهِّلة لارتكاب هذه الجرائم.

والمسؤولون في هذا “المحور”، هم تحديداً، كلٌ من نظام الأسد وحزب الله، ورأس المحور وقيادته، في طهران. إذ وبوحيّ من تجربة هذا “المحور” في تهجير جانب كبير من مناوئي النظام والثائرين عليه، وتغيير توزيعهم الديمغرافي، تحت بصر العالم أجمع، وفي عصرٍ تلاحق فيه الصورة الحدث بصورة مباشرة، بات قادة الكيان الإسرائيلي يراهنون على قدرتهم، في تكرار هذه التجربة، بغزة، في إحياءٍ لـ “الترانسفير” التاريخي الذي نفّذوه، قبيل نشأة الكيان، عام 1948، في زمنٍ كان الخبر فيه يصل متأخراً، خاضعاً لقيود الصور المحدودة، المضبوطة في معظمها، والنص المكتوب أو الإذاعي المُمسَك به، بقوة، من جانب صانعي القرار ومراكز القوى في العواصم الغربية.

في كانون الأول 2022، نشر مركز كارنيغي تحليلاً لأستاذة في جامعة كامبريدج، تُدعى بوركو أوزليك، تحت عنوان “التكلفة القيمية للتطبيع مع نظام الأسد”. حذّرت فيه من جهود إعادة تأهيل نظام الأسد، والضرر الذي تلحقه بمبدأ المساءلة، وانعكاس ذلك على مساعي المجتمع الدولي لمساءلة روسيا بخصوص انتهاكات مماثلة في أوكرانيا. أي أن عدم مساءلة الأسد، شجّعت روسيا على تكرار تجربته في أوكرانيا. أما من جانبنا، فنذهب إلى أبعد من ذلك، ونعتقد أن تجاوز جرائم النظام السوري التي عُرضت مراراً وتكراراً، على الهواء مباشرة، خلال العقد المنصرم، وصولاً إلى التطبيع معه، والإقرار ببقائه واستمراره، يخلق وحياً لأنظمة حكم أخرى، بالقدرة على الإفلات من العقاب، وتنفيذ سيناريوهات تطهير عرقي وتهجير نوعي للبشر. وذاك ما يحدث الآن في غزة. وإن كانت مسؤولية من تجاوزَ هذه الجرائم، كبيرة، في التسبب بتكرارها، فإن مسؤولية من ارتكب هذه الجرائم، أساساً، أكبر بمرات.

في بداية الحرب الإسرائيلية الشرسة على غزة، قالها الدبلوماسي والنائب السابق لوزير الخارجية الإسرائيلي، داني أيالون، صراحةً، وعلى الهواء مباشرةً، عبر الجزيرة الإنكليزية، إنه “أمر تم التفكير فيه ملياً”، وطرح سيناريو تهجير سكان غزة إلى سيناء، على أن تبني إسرائيل بالتعاون مع “المجتمع الدولي”، مدن لجوءٍ “مؤقتة”، مجهزة بالماء والطعام والبنى التحتية. وشدّد أنها “ليست المرة الأولى التي تم القيام فيها بمثل هذا الأمر”. مستشهداً بفرار السوريين من مجازر الأسد قبل سنوات، واستقبال تركيا لهم. وقال إن تركيا استقبلت “2 مليون منهم”. وهو عدد يماثل تقريباً عدد الفلسطينيين في غزة.

وهكذا يفكر قادة الكيان الإسرائيلي، من جديد، بتنفيذ سيناريو “ترانسفير” جديد للفلسطينيين. وهو الطرح الذي تجدد في العام 2000، في المؤتمر الذي عقده “المركز متعدد التخصصات” في هرتسليا. إذ طُرحت وثيقة أعدتها قيادات عسكرية وأمنية وسياسية إسرائيلية رفيعة المستوى، تتحدث عن “ترانسفير” جديد للفلسطينيين، كحلٍ في مواجهة التكاثر السكاني العربي.

ورغم أن “الترانسفير” شكّل أساساً للمشروع الصهيوني منذ مطلع القرن العشرين، لكن تنفيذه الفج والمباشر، لم يحدث إلا قبيل نكبة العام 1948. حينما نفّذت العصابات الصهيونية 25 مذبحة بحق الفلسطينيين، رافقتها دعاية “سوداء” روّجت لمذابح أخرى قادمة، مما دفع نصف مليون فلسطيني إلى الهرب.

في السنوات التالية لتأسيس الكيان، لم تنفّذ إسرائيل “ترانسفيراً” جديداً مباشراً. لكنها نفّذت أشكالاً “باردة” و”تدريجية” و”هادئة” منه. تقوم على التضييق على سبل حياة الفلسطينيين، وهدم البيوت ومصادرة المنازل، وتوسيع المستوطنات، بصورة دفعت مئات آلاف الفلسطينيين على مدى العقود التي تلت العام 1948، إلى النزوح من فلسطين، بالفعل.

لكن ذلك لم يكن كافياً في الفكر الصهيوني، فالخشية من النمو الديمغرافي السريع للفلسطينيين، تحديداً منذ العام 2000، أعاد إحياء أفكار “الترانسفير” المباشر، لترتفع أصوات عديدة داخل الكيان، للحديث عن سيناريوهاته المحتملة. وبقيت تلك الآراء حبيسة المؤتمرات والجدل الداخلي، في ضوء عدم إمكانية تكرار ما حدث من فظاعات مباشرة قبيل العام 1948، من جراء التطور الإعلامي ودور الصورة في نقل الحقيقة سريعاً، والخشية من انقلاب الرأي العام الغربي ضد الكيان.

إلا أن تجربة الأسد، الذي نفّذ “ترانسفيراً” بحق مناوئيه من السوريين، على الهواء مباشرةً، بصورة أدت إلى تهجير 5.5 ملايين سوري إلى خارج البلاد، أنعشت هذه الفكرة في أذهان القادة الإسرائيليين. إذ أغراهم توصيف “الانسجام” الذي رافقها.

ففي تشرين الثاني 2016، قال الأسد لصحيفة “بوليتكا” الصربية، إن المجتمع بات أكثر انسجاماً مما كان عليه قبل الحرب. يومها، أثار حديثه هذا موجة من السخرية، بوصفه انفصالاً عن الواقع. وقد يكون هذا التفسير لمقصد الأسد دقيقاً. لكن قد يكون هناك تفسير آخر، ربما. فـ “الترانسفير” كمصطلح، يُعرَّف بأنه يعني نقل سكان من منطقة سكنهم الأصلية إلى منطقة أخرى، بهدف إقامة منطقة تتمتع بانسجام سكاني من شعب أو عرق واحد. هل كان الأسد يقصد ذلك حقاً، حينما تحدث عن “الانسجام” الذي طرأ على المجتمع السوري، بعد حربه ضد هذا المجتمع؟ لسنا واثقين من الإجابة. لكن ما نحن واثقون منه، أن إسرائيل اليوم تعمل بوحي من تجربة الأسد، الذي نفّذ واحدة من أعتى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، بدعم من حزب الله ومن إيران، وعلى مرأى من العالم أجمع، وأفلت، حتى الساعة، من العقاب. فلمَ لا تكرر إسرائيل التجربة؟ هكذا يفكرون في تل أبيب الآن.

المصدر تلفزيون.سوريا


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا