التوافقات مدخل لحلّ قضايا المنطقة

تشهد منطقتنا راهناً تحولات جديدة على صعيد المطالبات الشعبية في العديد من دولها، وتترافق مع تحرّكات سياسية، ومساعٍ لإعادة بناء جسور التواصل بين دول أخرى بعد فتور بلغ، أحياناً، حد القطيعة، فما زالت انتفاضة الشعب الإيراني، بكل مكوناته وشرائحه الاجتماعية، مستمرة، رغم كل جهود الترغيب والتهديد التي مارسها، ويمارسها، نظام الولي الفقيه؛ إذ لم تؤد الوعود الخاصة بإلغاء شرطة الأخلاق، ومراجعة في موضوع الحجاب، وإجراء التحقيقات في قضايا إطلاق النار على المدنيين، والتنفيذ الشكلي، أو إعطاء الوعود بإقامة مشاريع خدمية هنا وهناك؛ وكذلك لم تؤد التهديدات بقمع صارم للمنتفضين، ولم تفضِ أحكام الإعدام التي صدرت ضد النشطاء، إلى تهدئة المنتفضين الذين يرفضون، بشجاعة أكيدة، رموز النظام ويتهجّمون عليها؛ ويعلنون صراحة عن رغبتهم في الانتقال إلى نظام سياسي يرتقي إلى مستوى إمكانات الإيرانيين والإيرانيات وطموحاتهم؛ كما لم تؤد الإجراءات القمعية، والمحاكمات الصورية، والتهديد بمزيد منها، إلى ردع المتظاهرين والمحتجّين، بل أدت تلك الخطوات إلى اتساع نطاق التظاهرات والاحتجاجات، وارتفاع سقف المطالب، حتى بلغ الأمر ببدري حسيني خامنئي إلى توجيه رسالة قاسية إلى شقيقها الولي الفقيه، علي خامنئي، تدعوه ونظامه إلى الإذعان لمطالب الشعب، وإيقاف الجرائم التي يتعرّض لها الإيرانيون. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الرئيس الإيراني الأسبق، محمد خاتمي، الذي عبر عن تأييده الحركة الاحتجاجية المستمرّة منذ ثلاثة أشهر بعد مقتل الشابة مهسا أميني، فقد وصف شعار الانتفاضة الإيرانية “المرأة، الحياة، الحرية” بالرائع الذي يتوجه نحو المستقبل.

ستؤثر تطوّرات الأحداث في إيران في أوضاع كل من العراق وسورية ولبنان واليمن، وهي الدول التي تغلغل فيها نظام الولي الفقيه، وتمكّن، عبر أذرعه من المليشيات والاستخبارات، من التحكّم بمفاصل القرارات؛ وتسبّب في فساد شمولي غير مسبوق، التهم، ويلتهم، موارد الدول ومدّخرات المواطنين، وأرزاقهم، حتى باتت غالبية الناس في الدول المعنية تحت حد الفقر، الأمر الذي يهدّد بدورة جديدة من تفجّر الغضب الشعبي في الدول المعنية.

أما على صعيد التحرّكات السياسية، فقد جاء اللقاء بين الرئيسين، التركي رجب طيب أردوغان والمصري عبد الفتاح السيسي، على هامش حفل افتتاح مونديال قطر 2022، ليوحي برسالة مفادها بأن القاهرة وأنقرة قد قرّرتا تجاوز أسباب القطيعة التي كانت، وذلك في ضوء التحدّيات الإقليمية والدولية، خصوصاً في أجواء الحرب الروسية على أوكرانيا، واحتمالات تصاعدها، واتساع نطاقها. كما أن القرار السعودي وضع وديعة مقدارها خمسة مليارات دولار في البنك المركزي التركي، لمساعدة الحكومة التركية على تجاوز الصعوبات التي يعاني منها الاقتصاد التركي، جاء ليكون بمثابة الإعلان عن توجّه جديد بين الرياض وأنقرة، هدفه تهدئة الأوضاع، وزيادة الفرص أمام العمل المشترك، استعداداً للمتغيرات الإقليمية والدولية المقبلة. وفي المنحى ذاته، جاءت زيارة رئيس الإمارات محمد بن زايد الدوحة، وتقديمه فيها التهنئة لأمير قطر، تميم بن حمد، على النجاح في تنظيم مونديال 2022؛ لتوحي هي الأخرى بوجود رغبة واضحة ضمن مجلس التعاون الخليجي في تنسيق المواقف، وتوحيد الجهود، استعداداً لتطورات محتملة على المستويين الإقليمي والدولي. ومما أكسب هذا اللقاء أهمية خاصة أنه جاء قبيل زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ اللافتة الرياض، ومشاركته في القمم الثلاث (مع القيادة السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي والدول العربية)، وقد جاءت لتؤكد أهمية تجاوز واقع الاستقطاب الذي أرادت روسيا بوتين فرضه على العالم، عبر محاولات كسب مزيد من الأنصار في مواجهتها مع الغرب، والحصول على الدعم لحربها على أوكرانيا. وقد كان للتوجّه الصيني، من ناحية المطالبة بضرورة احترام سيادة الدول، وحل الخلافات عبر القنوات الدبلوماسية، وقع إيجابي على ما يبدو لدى الدول الغربية، والولايات المتحدة تحديداً، وهذا ما انعكس واضحاً على نتائج المباحثات المباشرة بين الرئيسين، الأميركي جو بايدن والصيني شي جين بينغ، على هامش اجتماع دول العشرين في بالي في 14 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني).

كان مجلس التعاون الخليجي، وما زال، الكتلة العربية الأولى من جهة التماسك والإمكانات، وهو يؤدّي دوراً مهماً للغاية بعد الزلازل الكبرى التي شهدتها الأنظمة الجمهورية العسكرية التي ثبت أن كل شعاراتها القومية كانت أضاليل، غرضها شرعنة تسلط تلك الأنظمة غير المشروع على مقاليد الحكم والثروة والمصائر في البلدان التي حكمتها؛ واستخدمت الجيوش والأجهزة القمعية أداة للسيطرة على الشعوب. وكانت وراء عمليات الفساد والإفساد الكبرى التي التهمت موارد الدولة ومدّخرات المواطنين. وبعض الدول من هذه المجموعة، مثل العراق وليبيا والجزائر، في مقدّمة الدول المنتجة للنفط والغاز، لكنها لم تقدّم نموذجاً إيجابياً يُعتدّ به على مستوى تأمين احتياجات الناس، وتهيئة المقوّمات لمستقبلٍ أفضل للأجيال المقبلة، كما فعلت دول الخليج.

تأتي هذه التحرّكات، التصالحية الانفتاحية إذا صحّ التعبير، في السياق الذي ينسجم مع ما تحتاج إليه منطقتنا راهناً ومستقبلاً، فالتفاهمات بين القوى الإقليمية الثلاث الكبرى، السعودية ومعها دول مجلس التعاون الخليجي، ومصر وتركيا، من شأنها أن تؤثر إيجابياً على صعيد حلحلة الأوضاع في كل من السودان وليبيا. أما أوضاع العراق وسورية ولبنان واليمن فتتوقف على تطورات الأمور في إيران، وعلى مدى استعداد النظام هناك لإجراء مراجعات جادّة لسياساته وسلوكياته، إذا أراد أن تغدو إيران مستقبلاً قوة طبيعية في ميدان المحافظة على الأمن والاستقرار في المنطقة، وتساهم في جهود التنمية المستدامة فيها.

ويبقى موضوع رغبة تركيا في القيام بعملية عسكرية جديدة في الشمال السوري، وفي منطقة شرق الفرات تحديداً، تحت شعار إبعاد خطر حزب العمال الكردستاني وواجهاته السورية عن حدودها الجنوبية؛ وهي العملية التي أثارت تصريحاتٍ متباينة من الجانبين الأميركي والروسي، وحتى من الجانب الإيراني الذي يعدّ شريكاً لتركيا مع روسيا في مسار أستانا. وقد تمحورت تلك التصريحات حول أهمية التوافق على إجراءات تكون مقبولة من الجانب التركي، ولا تؤدّي إلى زيادة التصعيد في أجواء دولية مشحونة معقدة أصلاً. مع العلم أن قضية الحزب المذكور في نهاية المطاف خاصة بتركيا، وهو الحزب الذي استخدمته السلطة الأسدية منذ بدايات الثورة السورية في ربيع 2011، للحيلولة دون تفاعل الكرد السوريين مع الثورة السورية، والتلويح بورقة ضغط في وجه تركيا، بناء على تفاهمات مع الراعيين، الإيراني والروسي.

ويمكن لتركيا حلّ هذه القضية، إذا أرادت، عبر العودة إلى العملية السلمية التي توقفت عام 2015. هذا مع العلم أن هناك إمكانية واقعية لإحيائها على أسس جديدة، وبمشاركة أوسع من القوى والأحزاب التركية والكردية في تركيا للوصول إلى حل عادل للموضوع الكردي في تركيا، ضمن إطار وحدة الشعب والبلد، وهذا ما سيكون في مصلحة تركيا أولاً، وفي مصلحة الاستقرار في العراق وسورية والمنطقة بأسرها.

أما الموضوع الآخر الذي يستوجب مقاربة جديدة في سياق جهوده لتهدئة الأوضاع في المنطقة فهو الموضوع الفلسطيني الذي بات ميداناً لمزايدات شعبوية من المتشددين والمتطرفين هنا وهناك، الأمر الذي يهدّد بتفجّر الأوضاع، واندلاع حروب جديدة، فهذا الموضوع يمثل مشكلة مزمنة لن تحلّ من دون الإقدام على خطوات جريئة عقلانية، تكون أساساً لحل واقعي مقبول لدى الجانبين، يقطع الطريق أمام المتلاعبين بالعواطف والشعارات من القوى المحلية والإقليمية، ويبدّد هواجس الطرفين، ويفتح الآفاق أمام تعاون واسع لمصلحة سائر شعوب المنطقة من دون أي تمييز أو استثناء، وما يستشفّ من المعطيات والمواقف، خصوصاً من الجانب الأميركي، أن حلّ الدولتين ما زال الإطار الأكثر قبولاً.

هل نستطيع القول هنا إن التحركّات والمواقف الجديدة من القوى الإقليمية الأساسية المشار إليها خطوات قد تمهد الطريق مستقبلاً على طريق عقد مؤتمر إقليمي دولي بشأن أزمات المنطقة ومشكلاتها، بهدف الوصول إلى حلول، أو حتى مشاريع حلول ممكنة، قابلة للتطبيق على أساس احترام تضحيات الشعوب وتطلعاتها، وفتح الآفاق أمام مشاريع تنموية مستدامة، تمتلك المنطقة كل مقوماتها إذ ما قرّرت دولها القطع مع المقاربات القديمة العقيمة التي لم تجلب سوى الكوارث؟

ربما يتجاوز هذا التساؤل التفاؤلي حدود الممكن راهناً، ولكنه تساؤلٌ مطلوب، يستمد مشروعيته من رغبة شعوب المنطقة في استعادة عافيتها، عبر وضع حدٍ للسياسات والممارسات الكارثية التي أرهقت البشر، ودمّرت الحجر، وأتلفت الشجر.

المصدر العربي الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا