الجولاني.. من”جهادي” إلى تاجر معابر

لو عدنا إلى 2012، عام تأسيس “جبهة النصرة”، حين كان التنظيم الأقدر على إيلام النظام وتسجيل الضربات المتتالية ضده، لكان مشهد التظاهرات، احتجاجاً على تخطيط “هيئة تحرير الشام” (وريثة النصرة) لافتتاح معبر تجاري مع النظام السوري، ضرباً من الخيال المنافي للمنطق. راكمت “النصرة” شعبيتها في أوساط المعارضة السورية وفي المناطق المحررة، على أساس كفاءتها في مواجهة قوات النظام، وتركيزها على القتال وإلحاق الخسائر بها، من دون التفات إلى السلطة والاقتتال الداخلي.

لهذا فإن خروج تظاهرة، بغض النظر عن الجهة المنظمة (حزب التحرير أو غيره)، ضد تطبيع مرتقب للهيئة مع النظام الأسدي، يُمثل إحدى علامات هذا السقوط السريع لما تبقى من ثوبها القديم. ماذا يبقى من الهوية الأولى لـ”تحرير الشام”، بعد قمع المختلفين سياسياً وثقافياً معها واغتيال رموز للثورة السورية، ومن ثم التراجع عن “الثوب الجهادي” وتصفية المهاجرين الأجانب (أو تسليم مواقع وجودهم لمن يقدر على قصفهم)، وبعدها أيضاً فتح معابر للتبادل التجاري مع النظام السوري؟ بعد كل هذا، كيف بإمكاننا وصف هذا التنظيم وتسميته؟ هل هو تنظيم “معارض” أو “جهادي” أو ميليشيوي يبحث عن مراكمة الأرباح؟

في سيرورة هذا التحول، قد لا تبقى هوية محددة ولا هدف سامياً، بل طالب سلطة يُسخّر كل شيء في سبيل بقائه ونجاته، تماماً كالنظام السوري، مع فارق نوعي طبعاً في الأدوات المتوافرة وتاريخ الجرائم والاستبداد والقمع. بعض سكان إدلب يتحدثون عن تحول “الرفيق” إبان سنوات “البعث” الى “شيخ” في عهد “الهيئة”، مع فوارق لم يُتح الزمن بعد اختبارها.

يبقى سؤال كيف وصل التنظيم وزعيمه “أبو محمد الجولاني” إلى هنا؟ جانب من الإجابة طبعاً على ارتباط بالتحول من تنظيم الى شبه دولة لها مؤسسات وحكومة وموازنة، والأهم نخبة مالية واقتصادية، واتساع نطاق الطموحات والمتطلبات المالية للاستمرار على هذا المستوى.

وحين يصير “الزعيم” محاطاً بنخبة اقتصادية من هذا النوع، يعني أن عليه اتخاذ قرارات على أساس رفع مستوى التبادل التجاري، ومعها موارد خزينة الهيئة ومؤسساتها. ذاك أن المعابر تدر ملايين الدولارات (13 شهرياً وفقاً لأحد التقديرات)، كل شهر، وهي تُوفر غالباً القسم الأكبر من موازنة التنظيم، عبر الضرائب على مرور البضائع (والبشر كذلك)، علاوة على إشراف (وربما شراكة) في صفقات تجارية وشحنات مساعدات إنسانية. لهذا فإن العمل على افتتاح معبر أكان في شرق محافظة إدلب أو غيرها باتجاه مناطق سيطرة النظام، يعني تلقائياً مضاعفة مداخيل التنظيم، إذ يفتح ذلك مجالاً لتبادلات تجارية أوسع، وبالتالي بضائع وضرائب أكثر. كيف بإمكان الجولاني رفض مثل هذا العرض السخي مع نمو النخبة الاقتصادية المرتبطة به، وفي ظل انفتاح أمني وسياسي تركي على النظام السوري؟

من الصعب ذلك، سيما لو كانت الخطوة مرتبطة بسياسة تركية جديدة مُلزمة لكل الأطراف. لكن حتى لو ضغطت أنقرة على الهيئة وفصائل أخرى، يبقى أن هناك هامشاً لرفض هذه السياسة أو على الأقل تأجيلها والمماطلة في تنفيذها. بيد أن الجولاني حين يُغلّب هوية تاجر المعابر على زعيم فصيل معارض للنظام، يفقد القدرة على استيعاب أهمية الخسائر الاستراتيجية التي يُمنى بها تنظيمه. فحين تصير “الهيئة” خاوية من أي معنى، سينعكس ذلك على قدرتها على التماسك، والأهم على القتال في مواجهة أعداء وخصوم كثر.

وقد يدفع مثل هذا الخيار للتساؤل إن كان التنظيم يسير منذ بداياته الى هذه النقطة بوجهين، يتلاشى الظاهر منهما مع كل خطوة براغماتية، على أن يختفي تماماً حين تطل فُرصة افتتاح معبر برأسها، كفأر يسير نحو حتفه وعيناه على قطعة جبنة أمامه.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا