السوريون والمسألة الفلسطينية

أعادت المقاومة الباسلة التي أبداها الشعب الفلسطيني بمكوناته كافة، والتضامن العربي والإسلامي معه، ضد العدوان الإسرائيلي، أخيرا، في حي الشيخ جرّاح وبيت المقدس وغزة وداخل الخط الأخضر، القضية الفلسطينية، وخصوصا مركزية القدس، إلى مكانتها الطبيعية، لتذكّر العالم بمظلومية تاريخية فريدة على مدى أكثر من قرن. والحديث عن التعاطف السوري مع إخوتهم الفلسطينيين بصيغة “الجمع” مردّه تمييز بين مكونات الشعب السوري وأماكن وجوده، سواء في الداخل المُقسم أو الشتات، من ناحية، وللتمييز بين الموقفين الرسمي والشعبي، وهو تمايز هام قد لا يختلف كثيراً عن الحالة العربية، من ناحية ثانية. بدا التعاطف السوري واضحاً من خلال وسائل التواصل الاجتماعي لأولئك الذين يعانون الأمرّين في مناطق سيطرة النظام، وبعض أشكال التعبير المتاحة في الشمال الغربي الخارج عن سيطرة النظام، ومشاركة السوريين في الفعاليات في غير عاصمة دولية، خصوصاً في الأماكن التي فيها وجود سوري ملحوظ من المُهجّرين.

السوريون الذين عانوا من قهر وعنف ووحشية نظامهم التي اقتربت، لا بل وتجاوزت، في بعض ممارساتها وأشكالها، الظلم التاريخي الذي أوقعه الاستعمار الاستيطاني الصهيوني على الفلسطينيين. فعلى صعيد التهجير، فقد هجّرت إسرائيل نصف الشعب الفلسطيني في أثناء النكبة التي تمر ذكراها الـ73 هذه الأيام، وعلى مدى عشر سنوات هجّر النظام السوري نصف شعبه، بين نازح ولاجئ، واستحضر جيوشاً خارجية أضحت بحكم المحتل الأجنبي. أما على صعيد القتل، فقد تجاوزت الأعداد من ضحايا النظام السوري، حتى ولو تم النظر إليها كنسب مئوية، تلك التي طاولت الفلسطينيين العزّل. وأخيراً فقد تجاوزت وحشية النظام السوري كل أشكال العنف المعتمدة لقمع المعارضين، وذلك باستخدامه البراميل المتفجّرة والسلاح الكيميائي ضد شعبه، في سابقةٍ فريدةٍ لأي من الأنظمة السلطوية القائمة. زادت هذه المعطيات من تفهم السوريين لمعاناة إخوانهم الفلسطينيين منذ دخول المشروع الاستيطاني الصهيوني حيز التنفيذ.

ترابط المصير بين الشعبين السوري والفلسطيني، لا يمكن فهمه إلا ضمن السياق التاريخي الطبيعي. في بدايات القرن المنصرم، ومع دخول المشروع الصهيوني مراحله الأولى، تكشفت رغبة أغلبية سكان مناطق بلاد الشام (سورية ولبنان والأردن وفلسطين) في العيش ضمن دولة مستقلة تحت حكم الأسرة الهاشمية التي وُعدت بمملكة عربية قبيل الثورة العربية. وعندما وصل إلى مسامع الأهالي في بلاد الشام الخبر المشؤوم عن وعد بلفور، كان هناك رفض قاطع من الأغلبية التي أدركت طبيعته الاستعمارية. ومن ضمن التوثيق التاريخي لهذا الموقف، يمكن ذكر العرائض التي قدّمها أعيان قرى بلاد الشام وحواضرها لما عُرف بلجنة “كينغ – كرين”، التي أرسلها الرئيس الأميركي ودرو ويلسون لاستقصاء آراء الأهالي، لتكون ضمن مدخلات تسويات ما بعد الحرب العالمية الأولى.

المحطة الثانية الهامة التي تظهر وحدة أهالي بلاد الشام تتجلى في مشاركة “سوريين” في الجهاد ضد الاستعمار البريطاني والعصابات الصهيونية في فلسطين، وكذا مشاركة أبناء المدن والقرى الفلسطينية ضد المستعمر الفرنسي في الإقليم الشمالي لبلاد الشام. المثال الأكثر شيوعاً قيادة الشيخ عز الدين القسام، الذي نال شرف الشهادة في أثناء ثورة 1936 على التراب الفلسطيني. ولذا، لم يكن غريباً أن يُعاد الاعتبار لدور هذا الشيخ الجليل، من مواليد الساحل السوري، بإحياء ذكراه، وبأن تتكنى باسمه الكتائب العسكرية التابعة لحركة حماس بعد أكثر من خمسين عاماً.

وعلى الرغم من جهودٍ قامت بها الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية في التواصل مع بعض قيادات الحركة الوطنية السورية لتحييدها عن القضية الفلسطينية، فقد كانت المشاركة الرسمية والشعبية الواضحة لسكان سورية، بعيد استقلالها، جلية في حرب 1948. ولم تقلل الهزيمة التي تعرّضت لها جيوش سبع دول عربية، ومنها سورية، من الجهود والتضحيات التي قدمتها جموع المتطوعين السوريين والعرب في تصدّيهم لمشروع استعماري غربي جديد. ولم يكن الرفض العربي لمشروع التقسيم، وقتها، تعنتاً كما حاول بعضهم تصويره، بل كان واقعياً، فلم يقبل منطق قيام دولة يهودية على مساحة أكثر من 53% من أرض فلسطين، منحتها لها الجمعية العامة للأمم المتحدة، في جلسة قاطعتها الدول العربية السبع الممثلة في الجمعية آنذاك، على الرغم من أن اليهود لم يكونوا يملكون أكثر من 8% من تلك الأراضي.

كانت النكبة محطة هامة في تمايز الموقف الرسمي والشعبي السوري، والعربي عموماً، تجاه القضية الفلسطينية، فقد استغلت المؤسسة العسكرية الوليدة في سورية، كما في غيرها من الدول العربية، فشل الحكومات المدنية في الحرب الأولى مع إسرائيل للسيطرة المباشرة على السلطة، فقد شهدت سورية ثلاثة انقلابات متتالية في عام 1948 وحده، بذرائع كثيرة، لعل أهمها ضرورات التصدّي للخطر الصهيوني التوسعي. وقضت بدعة الحكم العسكري على تجربة ديمقراطية وليدة غير مثالية. وباسم مواجهة الخطر الخارجي، وأنه “لا صوت يعلو على صوت المعركة”، قمعت الأنظمة العسكرية، خصوصا بعد وصول حزب البعث عام 1963، المواطنين والحريات وحظرت الأحزاب السياسية، وطهرت المؤسسة العسكرية من الكوادر العسكرية المحترفة التي لم تكن تنتمي للجناح الأقلوي العلوي من حزب البعث. وكانت هذه الخلفية السبب الرئيس لكارثة عام 1967 التي حاول الحزب الحاكم التقليل منها بإعطائها تسمية “النكسة”. وهي الهزيمة الكارثية التي خسرت فيها سورية هضبة الجولان الاستراتيجية، وتم تسويقها أنها تراجع مؤقت، وذلك لفشل الكيان الصهيوني في تحقيق أهدافه الحقيقية المتمثلة في إسقاط النظام التقدّمي المقاوم!

وكانت المحطة التالية بعد وصول حافظ الأسد إلى الحكم على خلفية صراعه مع زملائه في الحزب بشأن المسؤولية عن الهزيمة. كانت قضية التعاطي مع آثار الهزيمة حاضرة في الصراع بين صلاح جديد، الذي كان يدعم فكرة الحرب الشعبية لتحرير الأراضي المحتلة، ودعم الحركة الوطنية الفلسطينية، ووزير الدفاع حافظ الأسد، الذي كانت لديه مقاربة مختلفة قائمة على تحقيق نوع من التوازن الاستراتيجي مع العدو الصهيوني، قبل التفكير في الإقدام على أي مواجهة. وبعد حرب 1973 التي أراد منها النظام السوري إعادة نوع من الشرعية والاعتبار لرأس نظامه الذي كان يرى سوريون كثيرون أنه المسؤول المباشر عن الهزيمة النكراء في 1967. تبنى النظام السوري مقولة: “السلام خيار استراتيجي”. وعنت ترجمة هذا التوجه الدخول في مفاوضات غير مباشرة مع العدو الإسرائيلي، والتهدئة الكاملة على الجبهة السورية منذ ذلك الوقت. وانتهج النظام السوري استراتيجية السيطرة على القرارين الفلسطيني واللبناني، والضغط على الأردن، لتوظيف ذلك في “معركة” السلام. وبعد اعتراف العرب بمنظمة التحرير الفلسطينية في مؤتمر قمة الرباط عام 1974، حاول تقويض دورها على مدى السنوات اللاحقة، خصوصا بعد اندلاع الحرب الأهلية في لبنان. لقد ارتكب النظام السوري مجازر بحق الفلسطينيين في مخيم تل الزعتر وغيره، وكذا بحق الحركة الوطنية اللبنانية، باسم إحداث توازن بين المكونات اللبنانية، ولم تنجُ منه أي من القوى اللبنانية، ما خلا حركة أمل، وبعدها حزب الله الذي شكلته إيران في منتصف الثمانينيات. وبذل النظام السوري كل الجهود لتقويض قيادة حركة فتح، ورئيسها ياسر عرفات، بشتى الوسائل، ومنها دعم كل حركات التمرد ضد القيادة الشرعية، سواء من داخل حركة فتح أو من الحركات المنضوية في منظمة التحرير وخارجها.

ومع نهاية السبعينيات، كان هناك حراك شعبي ضد ممارسات النظام السوري، تم قمعه بحجة تواطئه مع العدو الصهيوني، وبلغ مداه في مجزرة حماه عام 1982، ذهب ضحيتها أكثر من ثلاثين ألف مدني. وهكذا تم تحييد الشعب السوري عن القضايا كافة، بما فيها التعبير عن التضامن مع الشعب الفلسطيني في التطورات اللاحقة، مثل الانتفاضة الأولى عام 1987، فالنظام هو المعني بالحرب والسلم نيابة عن الشعب السوري.

تزامن وصول بشار الأسد إلى الحكم مع اندلاع الانتفاضة الثانية، حيث وثّق النظام العلاقة مع إيران، وحزب الله، وشكّل ما سمّاه محور المقاومة. وللحقيقة، فقد استضاف النظام بعض الأنشطة والشخصيات الفلسطينية المرتبطة بحركة حماس والجهاد الإسلامي، لإعطاء هذا المحور مصداقية أمام الرأي العام، المحلي والعربي. وساعد هذا الاستثمار في دعم حزب الله النظام في الخروج من مأزق اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، خصوصا بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006. كان هناك تطابق بين الموقفين الرسمي والشعبي، في أثناء هذا العدوان، حيث استقبل السوريون إخوانهم اللبنانيين، وكثير منهم من مؤيدّي حزب الله، في بيوتهم، وارتفعت شعبية أمين عام حزب الله حسن نصر الله إلى مصاف الأبطال في عيون السوريين، لأنه قصف إسرائيل رداً على عدوانها.

المحطة الأخيرة هي الربيع العربي وما تلاه. عندما انتفض الشعب السوري متأثراً بثورات الربيع العربي، خصوصا في تونس ومصر، كانت هناك لحظة أمل مع سقوط رؤوس أنظمة تونس ومصر وليبيا، بأن المنطقة متجهة إلى موجة ديمقراطية، ارتأت فيها إسرائيل تهديداً حقيقياً من ناحيتين: أنها سحبت ادّعاء الحكومة الإسرائيلية بأنها النظام الديمقراطي الوحيد في الغابة المتوحشة المدعوة الشرق الأوسط، وأن الأنظمة الديمقراطية الجديدة ستكون الأكثر قدرة على التعبير عن مصالح شعوبها في الداخل وفي القضايا المصيرية، وفي مقدمتها دعم الشعب الفلسطيني في تحقيق تطلعاته في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.

كانت الثورة المضادّة للربيع العربي كارثة على الشعوب العربية والقضية الفلسطينية. لقد دفع الشعب السوري ثمناً باهظاً لمطالبته بحقوقه، تمثلت بتهجير أكثر من نصف سكانه، وقيام النظام بحملة قتل واعتقال وتدمير ممنهج للمناطق التي خرجت عن سيطرته، جعلت الممارسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني تبدو إنسانيةً مقارنة بوحشية نظام الأسد وحلفائه. وحدة المواقف الشعبية للفلسطينيين والسوريين لم تكن لتؤثر عليها الأصوات النكرة من معارضين سوريين اعتقدوا أن خلاصهم يأتي من خلال إقامة علاقة مع الحكومة اليمينية العنصرية الإسرائيلية، كما لم يقلل من عدالة الثورة السورية وقوف “فصائل فلسطينية” موالية للنظام ضد ثورة الشعب السوري. لقد تمثل التضامن الفلسطيني بأجلى صوره في الدور المحوري الذي قام به فلسطينيو سورية في المشاركة الفعالة في الثورة، وتقديمهم تضحيات جسيمة ثمناً لموقفهم. كما يُذكر لقيادات “حماس” مغادرة الأراضي السورية، لكي لا تكون الحركة شاهدة زور على جرائم النظام السوري بحق شعبه.

لم يكن غريباً أن تتراجع القضية الفلسطينية إلى أسوأ حالاتها مع ارتفاع وتيرة الثورة المضادّة، ووصول ترامب إلى الحكم في الولايات المتحدة، وإمعان حكومة نتنياهو في التوسع الاستيطاني. وبالتأكيد، لم يساعد الانقسام الفلسطيني على وقف التدهور. كما كان هناك ارتياح كبير داخل الدوائر اليمينية والعسكرية الإسرائيلية لتدمير بشار الأسد بلاده وتقسيمها، فقد تم تحييد دولة عربية أخرى عن دائرة الصراع، بشكل يُسهّل الاستفراد بالشعب الفلسطيني.

وتقود التطورات الساخنة الماثلة حاليا إلى مجموعة من الاستنتاجات على صعيد الترابط بين مصائر السوريين والفلسطينيين: أولها، أن إدارة الأنظمة الرسمية الصراع (لا تُستثنى السلطة الفلسطينية نظاما عربيا إضافيا) كان مصيرها الفشل في الحرب والسلم. وتكفي هنا الإشارة إلى كيفية نجاح إسرائيل باللعب على المسارات السلمية، وذلك للاستفراد بكل طرفٍ على حدة، الأمر الذي أضعف الأطراف العربية كلها، بدءاً باتفاقية كامب ديفيد، ومروراً بأوسلو، وانتهاءً بما سميت “صفقة القرن”. الثاني، أن تجاوز الحد الأدنى الذي قبله النظام الرسمي العربي، والمتمثل في المبادرة العربية للسلام لعام 2002، والتي تقبل السلام الكامل والشامل مع إسرائيل مقابل دولة فلسطينية على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، عاصمتها القدس الشرقية، وإنهاء احتلال الجولان، هذا التجاوز أقل ما يقال فيه إنه تخاذل واستسلام. الثالث، موضوع القدس يخص جميع العرب والمسلمين، بمن فيهم المكون المسيحي، ووجود إجماع حول عدم التفريط به هو السبيل الوحيد للحفاظ على المقدسات، من دون الحاجة للمزايدات. أخيراً، أظهر التعاطف السوري الواسع مع الشعب الفلسطيني الذي يقاوم العدوان الإسرائيلي على أراضيه كافة، أن الشعوب لم تحد عن بوصلتها السليمة: فالمعركة ضد الاستبداد والاحتلال، والهيمنة الغربية الداعمة لهما، واحدة لا تتجزأ، ولو تنوعت أشكالها. وكما برهنت تجربة الربيع العربي المستمرة، فإن الصمود والتقدم في أي من هذه المسارات داعمان ومحفزان للقضايا الأخرى.

المصدر العربي الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا