القضية السورية بين المواقف الدولية وسلطات الأمر الواقع

ربما بدا من نافل القول أن الحل الجذري للقضية السورية لم يعد مسألة تخص السوريين وحدهم بقدر ما باتت تتحكّم في مفاصلها قوى دولية وإقليمية، بل غالباً ما كان تشعّب المصالح بين الأطراف النافذة في الشأن السوري أحد أسباب استمرار تأزم هذه القضية. ولكن هذا التسليم بأهمية الدور الدولي والإقليمي غالباً ما أصبح مشجباً يعلّق عليه سوريون كثيرون نأيهم عن الاستمرار بمقاربات مستمرة ومبادرات جدّية حيال ما يجري من جهة، وكذلك لإيجاد غطاء يستر ما يتجسّد من مواقف وسلوكيات لا تقلّ كارثيّةً عن الأدوار الخارجية من جهة أخرى، ولعل هذا ما يدعونا باستمرار إلى إعادة النظر في المقولات التي تحظى بقدر كبير من المصداقية ولكن في الوقت ذاته يتم استثمارها وتدويرها بغية تحويلها إلى حالةٍ شعاراتية لا تحمل في طيّاتها سوى الرغبة في التبرير وإلقاء التهم على الآخر.

فالإقرار باستحالة حل القضية السورية من دون رغبة دولية بإحلال الاستقرار والأمن، وكذلك من دون تعاون دولي حقيقي يؤثر على أطراف الصراع ويدعم القرارات الأممية ذات الصلة بالقضية السورية، لهو أمر في غاية البداهة، ولكن هذا الأمر لا يعني أبداً الاستغناء عن الدور الجوهري والأساسي للسوريين أنفسهم، كأصحاب قضية، بل يمكن التأكيد بكل قوّة أن جدّية المواقف الدولية حيال القضية السورية مرهونة بقدرة السوريين على المبادرة والعمل المخلص، وكذلك بقدرتهم على إقناع الأطراف الدولية بعدالة قضيتهم ومشروعيتها من جهة، وكذلك بقدرتهم على إيجاد تقاطعات مصلحية بين مصالح الدول وطموحات السوريين في التغيير من جهة أخرى، وبناء عليه، يمكننا التساؤل: ما الذي فعلته وتفعله سلطات الأمر الواقع الأربع على الجغرافيا السورية؟ هل المنحى العام لسلوك تلك السلطات وممارساتها توحي بأنها تعمل لإنهاء الأزمة وخلاص السوريين؟ وهل يمكن الركون إلى أن تلك السلطات بمجملها ما تزال تعتبر كياناتها جزءًا من الوطن السوري، وبالتالي هل تعتقد تلك السلطات أن كياناتها السلطوية الراهنة هي مظهر من مظاهر الأزمة وليست الحل الذي يريده السوريون؟

يشير واقع الحال إلى ان أية مقاربة جدّية لما تفكر به سلطات الامر الواقع جميعها (كسلطات تعمل بالوكالة) ولما تمارسه حيال المواطنين تؤكّد أنه، على الرغم من التباين الإيديولوجي والسياسي بين تلك السلطات، إلّا أنها تلتقي بعدّة قواسم جوهرية، لعل أبرزها نزوعها جميعها نحو تأبيد الحالة الراهنة والعمل على تعزيز تموضعها السلطوي وفقاً لمصالح القائمين على رعايتها ودعمها. ولعله ليس من قبيل الصدفة أن تشهد نهاية العام 2023 تصفية حسابات تقوم بها كل سلطة على حدة، ولكنها تشترك في هدف واحد، هو تقوية عوامل بقاء السلطة وضمان استمرارها أولاً وأخراً.

لقد بدت هواجس بشار الأسد، بوصفه رأس السلطة في دمشق، في خطابه أمام اللجنة المركزية لحزب النظام، معزولة بالمطلق عن هواجس المواطنين السوريين، بمن فيهم الموالون لنظامه، فحين يركّز في كلامه على آليات انتخابية داخل الحزب، وكذلك يتحدث بفلسفة جديدة عن “تبرير المحسوبيات”، وتبدو مشاغله محصورة في تغيير تموضعات بعض الأجهزة الأمنية من خلال دمج بعضها ببعض أو إلغاء بعضها، وكذلك يبدو مشغولاً باستحداث نظام إداري جديد لشؤون رئاسة الجمهورية، إذ يبدو كذلك، كان السوريون في مناطق سيطرته ينتظرون حلّا، ولو جزئياً، لمجمل تفصيلات معاناتهم الوجودية بدءًا من تأمين رغيف الخبز ووصولاً إلى الأمان الذي يدرأ عنهم شبح الخوف الذي بات حالة ملازمة لهم. وفي موازاة ذلك بدت سلطة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تسيطر على الشطر الشرقي من سورية مهجوسة بعوامل شرعية وجودها، فما عجزت عن تحصيله من نظام الأسد (اعتراف دستوري بإدارتها الذاتية) تريد انتزاعه من محكوميها السوريين الذين لا تؤمن لهم الحد الأدنى من أسباب البقاء، علماً أنها تضع يدها على الغلة الاقتصادية السورية كاملةً، فكانت هديتها للشعب المنكوب عقداً إجتماعياً يلبي حاجة مفقودة لدى “قسد”، ولكنه بالتأكيد لا يقارب بالمطلق أي شأن مما يوجع السوريين.

ولو اتجهنا إلى الشطر الشمالي الغربي من سورية لوجدنا أن الحكومة المؤقتة والائتلاف والفصائل العسكرية تسعى جميعها نحو هدف تكاملي فيما بينها، وهو الحفاظ على مصالحها (ككيانات وظيفية) لا تملك قرار ديمومتها، فضلاً عن عدم امتلاكها القدرة على المبادرة في الامتثال لتطلعات السوريين وتجسيد الحد الأدنى من مقوّمات عيشهم الكريم، فضلاً عن النأي الكامل عن القضايا الجوهرية التي تجري، كحراك السويداء مثلاً أو قضايا المعتقلين ومعاناة النازحين، باستثناء التركيز على ضرورة استئناف عمل اللجنة الدستورية باعتبارها مخرجاً مناسباً لقضية السوريين من وجهة نظر محور أستانة، بل الجانب الروسي على وجه التحديد.

ولا تبدو هواجس كيان أبو محمد الجولاني أبعد مما يذهب إليه أقرانه في الكيانات أو السلطات الأخرى، فالهاجس الأهم هو الحفاظ على السلطة واستئصال الخصوم وتصفية المنافسين للحفاظ على عنصريْ القوة والمال كحاملين أساسيين من حوامل السلطة.

ربما يصح الذهاب إلى أن المجتمع الدولي ما يزال غير راغب بدفع القضية السورية إلى واجهة اهتماماته وأولوياته، نظراً لانشغالاته التي توجبها مصالحه الأخرى، ولكن من الصحيح أيضاً أن القوى المسيطرة على الجغرافية السورية، ومنها من يدّعي تصدّره للثورة أو الانحياز لمطالب السوريين في التغيير، لا تقتضي مصالحها، ولا يوحي سلوكها وممارساتها ومواقفها إلى أية مقاربات جدّية وفاعلة لحل القضية السورية.

المصدر العربي.الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا