اللقاء السعودي – السوري بين الواقع والخيال

نسارع في طبيعتنا الاجتماعية الفكرية العاطفية العربية إلى بناء مواقفنا على خلفية إما تمنياتنا أو استشعارنا الخائف دوماً من الهزيمة بفعل تطور أو تغير أي موقف كنّا نعتبره أحد عناصر الدعم لنا والقوة التي نستند إليها، كان هذا التقييم البسيط نتاج أول فكرة تملّكت من العقل لدى مراقبة مجريات زيارة وفد سعودي إلى دمشق ولقاء رئيس النظام في سوريا بشار الأسد.

اجتاح الغضب جموعا كبيرة من السوريين والعرب المؤيدين للثورة السورية، وذلك لأن المواقف السياسية التي نتخذها مبدئياً تنطلق أيضاً من خلفية عاطفية أو من خلفية فكرية تتملّكها العاطفة، ففي لحظة الانفجار نستشعر عاطفياً أن النصر قريب، وفي لحظة الانحسار أو التراجع نستشعر أن أي خطوة لا تتلاقى مع تطلعاتنا قد كرّست مفهوم الهزيمة. ولكن بعد مرور عشر سنوات على الثورة السورية، وبإطلالة بسيطة على ما تشهده شوارع القدس، لا بد من التعلّم بأن السياسة لا تؤخذ غلابا، والمسار السياسي لا يتغير بمواقف الدول، وليس بالضرورة إذا ما قررت دول كنا نستند إلى مواقفها تغيير هذا الموقف أن نصاب بالهزيمة. وطبعاً ذلك ليس دعوة للعيش في الوهم أو التوهم، لا بل التعاطي بواقعية، وهي التي تفرض مقاربة أي تطور بلغة الواقع.

من دون أدنى شك أن الخطوة السعودية كانت مؤلمة، ومخيبة، لكن الأهم هو عدم الركون إلى حالة الندب والاستسلام. إنما المشروع السياسي يفترض أن يبدأ بعد التعرض للهزيمة، وبعد أن يتعمد بمعموديات سياسية وعسكرية ودموية كثيرة. وحتّى لو طبّّع العالم كلّه مع بشار الأسد، هل سيكون قدرة لشخص عاقل أن يتخيل الرجل قادراً على الاستمرار في حكم سوريا؟ هل تمكن صدام حسين من حكم العراق بعد حرب الخليج الثانية؟ مشكلتنا مع الزمن ومع ما نقاسيه في الرهان عليه، فندفع ثمنه من لحم ودم وأبرياء. بينما تبقى السياسة في مكان آخر.

حصل اللقاء السعودي السوري في لحظة تحول كبرى تمرّ بها منطقة الشرق الأوسط، لحظة الانفتاح السعودي على إيران تحت سقف المفاوضات الأميركية الإيرانية للعودة إلى الاتفاق النووي، تبحث السعودية عن مساحة لتصفير مشكلاتها كلّها، بالتهدئة مع إيران والبحث عن تسوية في اليمن، كان المدخل هو العراق وسوريا فيما بعد.

ولعدم الغرق في التبرير أيضاً، أو في التوهم، فلا يمكن اعتبار أن الخطوة السعودية تجاه سوريا ستكون على حساب إيران، بل على العكس، الهدف منها إرساء مزيد من التهدئة مع طهران. في المقابل أيضاً، لا يمكن التوهم أو التخوف من أن الخطوة ستعيد بشار الأسد أو النظام إلى قوته السابقة، كما بدأ بعض اللبنانيين بالتوهم في أنه سيعود ويتسلّم لبنان، هذه كلها مبنية على طفرات عاطفية، لا يمكن لسوريا أن تستفيق مما حلّ بها بأقل من 15 سنة بحال حصل الاتفاق السياسي اليوم، وهو لم يحصل وغير قابل للحصول. إنها مرحلة واقعية لن تنتج حلّاً بل هدفها تقطيع المرحلة وتمرير الوقت. عندما تحين لحظة الحلّ لا يمكن للأسد أن يبقى على حاله، ولو بقي النظام، فسيكون الحلّ على شاكلة حلول المنطقة بتشكيل حكومة تضم قوى متعددة.

يأتي الموقف السعودي في لحظة الاهتمام والتركيز نحو الداخل، أي تحت عنوان “السعودية أولاً”، والتفرغ للوضع الداخلي. يبحث ولي العهد محمد بن سلمان عن تصفير المشكلات، وتهدئة الجبهات، لذلك فإن الانفتاح على سوريا من شأنه أن يريح المملكة، بالإضافة إلى أن الملف السوري يشكل عاملاً لترتيب العلاقة مع روسيا وتعزيزها، بالإضافة إلى أنه بوابة لتوسيع مروحة التهدئة مع إيران. لم تكن الخطوة السعودية خارجة عن التنسيق والتمنيات الروسية، لأن موسكو أيضاً تواجه مأزقا في سوريا وتحتاج إلى أموال، وتنصح العرب بأن غيابهم لا يمكن أن يخدمهم بل لا بد لهم من العودة. تريد موسكو للعرب أن يعودوا إلى سوريا بالتنسيق معها في إطار صناعة توازن النفوذ مع إيران.

لا يمكن إغفال سوء العلاقة السعودية الأميركية، وبذلك لا بد من القيام بخطوات قد تستدرج الاهتمام الأميركي مجدداً، ولذلك لجأت السعودية إلى الانفتاح على النظام، تحسين العلاقة مع روسيا، وتهدئة الجبهة مع إيران، والانفتاح على تركيا. اللافت أنه بعد الخطوة السعودية جاء موقف الرئيس الأميركي جو بايدن حول سوريا، والذي لا يظهر أي تغيرّ في الموقف الأميركي تجاه سوريا، ولكن من دون تقديم أي مبادرة أو مسعى جدّي للحلّ.

تريد واشنطن الحفاظ على هذا الموقف للمستقبل، وللقول إن الأسد لن يكون قادراً على الاستمرار في حكم سوريا. ولو كانت العلاقة الأميركية السعودية لا تزال جيدة، لما أقدمت المملكة باتجاه هذه الخطوة. ولذلك جاء فيما بعد موقف الخارجية الأميركية الذي رفض إعادة ترتيب العلاقة مع بشار الأسد وتعويم النظام. واضطرت واشنطن أن تطلق هذا الموقف بعد صدور بيان مائع في لقاء دول السبع، لا سيما أنه خلال الاجتماع وعندما اقترحت واشنطن تضمين البيان جملة واضحة بعدم الترحيب بخطوات التطبيع مع الأسد، هناك دول رفضت ذلك وأبرزها فرنسا، فكان البيان تقليدياً جداً، لجهة الالتزام بالقرارات الدولية لا سيما القرار 2254 والحلّ السياسي وفق مندرجات مؤتمر جنيف.

عملياً دخلت سوريا طور “الأزمة الباردة”. هناك كثير من الآراء في واشنطن ترى بضرورة بقاء الوضع فيها على حاله، أي سوريا مصابة بالضعف، تتجاذبها قوى متعددة إقليمية ودولية، وتحتفظ أميركا بمنطقة نفوذ واسعة وأساسية، وبالتالي لا مصلحة بإعادة إنتاج النظام أو تعويمه، بما أنه لا مجال للوصول إلى حلّ سياسي. أيضاً روسيا لن يكون من مصلحتها حالياً إعادة سوريا موحدة إلا من خلال استدراج العرب للمشاركة في إنتاج الحل السياسي وضخ الأموال، في ظل التنافس بينهم وبين الإيرانيين، الذين ينشطون جداً اجتماعياً وفي مجالات التشييع وضخ الأموال في الحسينيات. إسرائيل تريد بقاء الأسد ضعيفاً وممسوكاً من قبل الروس، لأنه في حال تعاكست الوجهة قد تعزز إيران من سيطرتها أكثر، وهذا السبب الذي يدفع الإسرائيليين إلى الحفاظ على بقاء الأسد.

بغض النظر عن كل القراءات السياسية وتحليلاتها، تبقى الإشارة إلى أنه عندما ثار الشعب السوري، فإن ثورته لم تنطلق من سفارة أو وزارة أو إدارة خارجية، ولم ينتظر السوريون قراراً دولياً داعماً لهم لإطلاق ثورتهم. إنما الثورة هي التي فرضت نفسها على الدول التي دخلت للاستثمار فيها، فضاعت وأضاعت فرصا كثيرة بسبب ضياع المعارضة وتشتتها، وبالتالي لا يمكن لعمليات التطبيع مع النظام أن تؤدي إلى إخماد الثورة، إنما ذلك لا بد له أن يكون درساً لإعادة صوغها بشكل مختلف، والتركيز على إنتاج مبنى سياسي فعلي وحقيقي غير قائم على العاطفة ووشائجها، وقادر على تقديم طروحات سياسية متينة.

أخيراً، لا يمكن إغفال العامل الإنساني والبشري والاجتماعي في أي تحول سياسي، ما يعني أن الاجتماع السوري المقيم والمشتت، قادر على فرض نفسه كقوى تأثير وتغيير كبيرة في المسارات السياسية المتحولة، بدلاً من النزوع نحو الاستسلام، هذا أولاً.

ثانياً، هناك تجربة حصلت في لبنان أيضاً سابقاً ولا بد من التذكير بها، فعندما تمّكن حافظ الأسد من فرض سيطرته بشكل كامل على لبنان في الثمانينيات، أنتج حينذاك ما يسمى الاتفاق الثلاثي، ضم هذا الاتفاق ثلاث قوى لبنانية أساسية، هي نبيه بري ممثلاً للشيعة، ووليد جنبلاط ممثلاً للدروز، وإيلي حبيقة كممثل للمسيحيين، برعاية حافظ الأسد العلوي.

عندها كان السنّة مستبعدين من ذلك الاتفاق ومن تلك المعادلة، وهو أمر رفضته السعودية في العام 1986، تعاطت معه بداية بواقعية، إلى حين لحظة الانقضاض عليه ونسفه، وإعادة تكريس ما سمي لاحقاً باتفاق الطائف، الذي أعاد التوازن السياسي وعزز وضعية السنّة. هذه فكرة لا بد أن تبقى حاضرة ولا بد من العمل لأجل انتزاع مثيلها أيضاً، وهي مسؤولية ملقاة على عاتق السوريين.

ثالثاً والأهم، كيف يمكن للسعودية أن تعود إلى التطبيع مع بشار الأسد، والذي عمل على تغيير ديمغرافي ممنهج في سوريا، وتهجير ملايين السنّة من أراضيهم ومنازلهم، بينما رمزية السعودية وموقعها ودورها في ريادة العالم الإسلامي لا يسمح لها بالتغاضي عن ذلك، أو التطبيع مع الأسد وكأن شيئاً لم يكن، ما يجري قد يندرج في خانة تمرير الوقت، الحد من الخسائر، والعمل مع الروس بحثاً عن صيغة حلّ مستقبلية، قد تبقي الأسد في مرحلة ما بعد الانتخابات، ولكن تنتج صيغة حكومية جديدة بصلاحيات موسعة تشارك بها المعارضة بفرق متعددة من مكوناتها، بلا شك أن ذلك يحتاج إلى وقت طويل، وجهد كثير.

المصدر تلفزيون سوريا


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا