المناطق “المحررة” وعظام السمكة اليابانية

هزت المشاهد المصورة لجريمة قتل شابين من أحد الفصائل التابعة للجيش الوطني في مدينة جرابلس بريف حلب يوم الأربعاء نفوس كل من شاهدها، ورغم أنه ليس الحدث الأمني الأول الذي تشهده المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، إلا أن طريقة القتل كانت مروعة، فأن يقتل شابان بدم بارد ثم يمضي مرتكبو الجريمة بكل هدوء وكأن شيئاً لم يحدث، فهو أمر في غاية البشاعة.

لا يمكن على الإطلاق تبرير الحادثة، ورغم أن أحد الفاعلين برر الجريمة بأنها ثأر لمقتل شقيقه، الذي لقي مصرعه بالطريقة ذاتها بل وربما أشنع، إلا أن القيام بفعل سيئ للرد على فعل سيئ آخر هو أخطر ما يمكن أن تجد المجتمعات نفسها أمامه.

يتداول الجمهور مقولة منسوبة لأحد رؤساء الوزراء في اليابان إبان منتصف القرن الماضي في رده على سؤال حول سر النجاح في نهضة هذا البلد من تحت ركام الحرب العالمية الثانية مفادها “أننا قمنا بحل المشكلات الصغيرة ما أدى لحل مشكلة البلاد الكبرى”.

والصحيح أن هذه المقولة تختصر أسلوباً ابتكره “كارو ايشيكاوا” أحد علماء الاجتماع اليابانيين في الخمسينيات، وأطلق عليه اسم “نموذج عظم السمكة” في تحليل المشكلات وحلها، ويقوم هذا الأسلوب على تقسيم المشكلة الواحدة إلى أجزاء متعددة، تماماً كما يقوم أحدنا بتنظيف لحم السمك من الحسك، واحدة واحدة وصولاً إلى التخلص من العظام كلها، وهي طريقة في حل المشكلات تسهل تحليل كل قسم منها وإيجاد حلول لها بشكل منفصل من قبل فرق تتوزع حسب اختصاصاتها على فروع الملف الواحد بعد تقسيمها، ما يؤدي في النهاية إلى عمل متزامن ونجاح أكثر سرعة وحسماً في الوصول إلى الحل.

وبالنظر إلى طبيعة المشكلة التي تعيشها المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وخاصة تلك الخاضعة لسيطرة الجيش الوطني، يمكن القول إن أسلوب “عظم السمكة” كان (وما زال) يمكن أن يكون فعالاً في إنجاز حل لها، خاصة وأننا أمام مشكلة معقدة ومتعددة الأطراف، بدءاً من المؤسسة العسكرية، مروراً بأجهزة الشرطة والأمن، وليس انتهاء بالقضاء.

عملياً، ومن خلال المتابعة والتحليل، يمكن الاستنتاج أن الطرف الأكثر مسؤولية عن هذه المشكلة هي (مؤسسة الجيش الوطني)، التي ما تزال للأسف غير قادرة حتى الآن على التحول إلى مؤسسة حقيقية ذات سلطة مركزية ووحدة إدارية، بالنظر إلى تعدد فصائلها وتمسك كل فصيل بسلطاته الخاصة، التي تتجاوز حدود الفصيل إلى التدخل في عمل كل المؤسسات المدنية الأخرى، بما في ذلك القضاء والشرطة والمجالس المحلية.

وفي ظل هذا التغول العسكري، تجد أجهزة الشرطة والأمن نفسها مكبلة في غالب الأحيان بسبب عدم السماح لها بممارسة دورها الكامل في فرض الالتزام بالقانون ومنع التجاوزات، ويكفي هنا الإشارة إلى عدم قدرة الشرطة على تطبيق القرارات المتكررة القاضية بإخلاء المناطق المدنية من مقرات الفصائل، ومنع حيازة السلاح وحمله خارج المناطق العسكرية، ناهيك عن ضبط المعابر والوصول إلى المطلوبين وغير ذلك من المشكلات.

وفي ضوء ما تقدم ستكون مؤسسة القضاء، بطبيعة الحال، عاجزة عن فرض إرادتها وإنفاذ أحكامها، بل وفي كثير من الأحيان غير قادرة على إصدار الأحكام بحق المتهمين أو المدانين، وحسب المعلومات المتوفرة فإن العشرات من المحكومين بالإعدام نتيجة جرائم قتل وتفجيرات واغتيالات نفذوها لا تطبق بسبب تعقيدات الواقع في مناطق سيطرة الجيش الوطني، الأمر الذي يفسر لماذا لا يسمع أحد أو يشاهد تطبق القصاص بحق أي من هؤلاء المجرمين حتى الآن، الأمر الذي يشجع بلا شك على ارتكاب الجرائم، وينمي من جهة أخرى ظاهرة الانتقام خارج سلطة القانون!

كان يمكن لهذه الجريمة الأخيرة ألا تقع لو أن قرار منع التجول بالسلاح في التجمعات السكنية قد طبق بالفعل، وعندها كان سيعجز القتلة عن الوصول للضحية بهذه السهولة، وكان يمكن قبل ذلك منع من ارتكب الجريمة من ارتكابها لو أن الشرطة تمكنت من ضبط المتهمين الأساسيين (الذين أصبحوا ضحايا بدورهم الآن) وإحالتهم إلى القضاء، وكان يمكن أن توفر دماء كثيرة لو أن القضاء أصدر حكماً عادلاً بحقهم، لكن أي من تلك (الممكنات) لم يتحقق، فكانت النتيجة جريمة جديدة لن تكون الأخيرة إذا ما بقي الأمر على ما هو عليه.

يسهل على الكثيرين تفسير ما تعيشه المناطق (المحررة) وخاصة في ريف حلب والرقة والحسكة، من فوضى وانفلات أمني بأنها نتيجة طبيعية لعشر سنوات من الحرب وانتشار السلاح، وهو تفسير منطقي من حيث المبدأ، لكن منطقيته لا تتعدى حيز التحليل ولا تمثل بالمطلق سبباً لعدم إيجاد الحل الناجع لهذه المشكلة، التي كان يمكن حلها بتكاليف أقل ووقت أقصر لو توفرت الإرادة الكاملة في ذلك.

بالتأكيد الواقع اليوم في هذه المناطق ليس بالسوء الذي كان عليه قبل أشهر أو سنوات، لكن المشكلة ما تزال قائمة، والأهم أن عوامل استمرارها، بل وربما عودتها بشكل أقوى ما تزال موجودة أيضاً، لأن الحلول التي اتخذت حتى الآن لم تكن حاسمة، ومن دون جدية كاملة في معالجة كل جزء من أجزائها معالجة ناجزة، فسنبقى أمام تجميل للواقع وليس تغييره.

المصدر السورية.نت


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا