الهوية الوطنية السورية والعقد الاجتماعي..محددات وآفاق

الحديث عن الهوية الوطنية في بلد متعدد المكونات الإثنية والدينية والطائفية كسورية، هو حديث لا يمكن أن يكون صحيحاً، بدون وجود مربع هذه الهوية، الذي تتوافق عليه كل المكونات.

ولفهم الأمر بصورة أشمل، يمكننا تتبع عوامل تشكّل هذه الهوية، والتي يذهب باحثون كثيرون على جعلها أربعة عوامل، وهي: التاريخية والجغرافية والدينية والسياسية.

إن سورية بمساحتها الجغرافية المقدّرة بنحو 185 ألف كم2، والتي تحدّدت منذ نشوئها الحديث بعد الانفصال عن الدولة العثمانية، هي كيان سياسي جديد بهذا المعنى، ولهذا فالعوامل الأساسية الأربعة هي ذات العوامل قبل نشوئها الحديث، باستثناء العامل السياسي المتغيّر.

سورية التي تشكّلت باعتلاء الملك فيصل الأول بن الحسين عرشها في الثامن من آذار عام 1920، هي سورية الكيان السياسي الحديث، ولهذا لا يمكن مناقشة العامل التاريخي بعد نشوئها حتى الزمن الحاضر، فهو زمن قصير كعامل من عوامل تشكّل الهوية السورية.

ومع ذلك يمكن القول: إن بلاد الشام التي تشكّل سورية الحالية جزءاً منها، كانت تتبع الدولة العثمانية قرابة أربعة قرون، وأن سكّان هذه البلاد كانوا من إثنيات متعددة، وديانات مختلفة، وطوائف كثيرة، ومع ذلك، لم تكن هناك صراعات بينية تحكمها، ولكن فهم الانتماء كان قريباً من المعطى الجغرافي أكثر من غيره من العوامل، حيث يطلق على سكان بلاد الشام بغض النظر عن إثنيتهم أو دينهم أو طائفتهم (الشوام) نسبة لبلاد الشام.

العامل التاريخي بهذا المعنى لا يمكن إهماله في تشكّل سورية كدولة بهذه الحدود، ولذلك يمكن اعتباره عاملاً داعماً في تشكّل الهوية الوطنية السورية.

أما بالنسبة للعامل الديني، فهو الآخر يمكن أن يلعب دوراً في تحديد الهوية الوطنية، سيما في ظل عدم تسلّط ديني، هذا التسلط، يمكن أن يلعب دوراً سلبياً في التوافق حول الهوية الوطنية، في حالة صبغ الدولة بصبغة دينية محددة، وهذا يمنع فعلياً تشكّل الهوية الوطنية، على اعتبار أن هذه الهوية تمّ اشتقاقها من معطى ديني، وهو معطى يسبق بناء الدولة الوطنية.

ولعل إعادة انتاج الخطاب الديني بهذا الخصوص، وبما يتفق مع بناء الدولة الوطنية الحديثة، سيكون عاملاً إيجابياً في ترسيخ مفهوم الانتماء الوطني، فهذا الانتماء، هو مربع تتقاطع فيه كل المكونات خارج انتمائها الفرعي (الديني والإثني والطائفي)، بينما سيكون المربع الديني مربعاً لا يتسع للمكونات الدينية الأخرى، وهذا لا يساعد في ترسيخ مفهوم الانتماء الوطني ومن ثمّ في انتاج الهوية الوطنية المشتركة.

إن نقاش أثر العامل الجغرافي على الهوية الوطنية سيقود بالضرورة إلى طرح السؤال الرئيس: هل الجغرافية تلعب دوراً إيجابياً أو سلبياً في ترسيخ الهوية الوطنية؟

يبدو من البديهية بمكان أن الجغرافية الواحدة، التي يسكنها ويعيش فيها مكونات إثنية ودينية وطائفية مختلفة، هي عامل إيجابي في ترسيخ الانتماء الوطني، إذا لم تكن هناك صراعات سياسية بينية بين المكونات على أساس ديني أو طائفي، فهذه الصراعات، ستكون عاملاً سلبياً في ترسيخ الهوية الوطنية، إذ في هذه الحالة، سيحاول المتصارعون سحب الهوية الدينية، أو الطائفية، لتصير بديلاً عن الهوية الوطنية، حيث لا مكان للاتفاق بين هذين التحديدين، فالهوية الدينية، أو الطائفية، إذا ما تمَ فرضها بالقوة على باقي المكونات المختلفة، فإنها تصير عامل صراع وتفرقة، وبالتالي ابتعاداً عن بناء الوطنية وترسيخ الانتماء الوطني.

أما يتعلق بالعامل السياسي، فهو عامل حاسم في تحديد الهوية الوطنية، فحين يكون نظام الحكم على صورة النظام الأسدي، فهذا يعني عدم القدرة على انتاج الهوية الوطنية، التي تتشارك المكونات بعواملها الثلاثة باستثناء العامل السياسي، الذي استخدمه النظام الأسدي ليكون عامل منع تشكيل هوية وطنية جامعة للمكونات، لسببٍ، يُدرك أنه كنظام هيمنة واستبداد، وغير منتخب بصورة طبيعية شفافة، أنه لن يستطيع البقاء في السلطة ونهب الدولة بغير إحياء المكونات ما قبل الوطنية وتفعيل دورها لتتحول إلى عوامل تفرقة بين المكونات، وعوامل قد ترقى إلى مستوى الصراعات البينية، وهذا يساعده على التحكم بكل هذه المكونات من خلال اللعب بتوازناتها الداخلية وتشظيتها البنيوية، ومثال ذلك الانقسامات في الأحزاب المتحالفة معه، والانقسامات على مستوى مشيخات القبائل والعشائر السورية.

النظام الأسدي بهذه الممارسة عن سبق عمد وإصرار، كان يهمه بناء حكم عائلي أبدي كما تخيّله، وهذا ما دفعه إلى توظيف كل العناصر التي يمكن توظيفها (الدينية والطائفية والسياسية والتاريخية والجغرافية) لهذا الهدف، وقد ظهر ذلك جلياً من تهيئة أبنائه لكي يكونوا ورثته في حكم ونهب سورية، هذا التوظيف، لا يتسق مع صيرورة تطورية طبيعية في المجتمع السوري، وبالتالي لا يسمح بنشوء مربع الوطنية، الذي تتقاطع فيه وحوله كل المكونات الاجتماعية بألوانها المختلفة، مما يؤخر كثيراً في بناء الدولة الوطنية، التي تعمل على ترسيخ الانتماء الوطني للمشتركات بينها.

لهذا، ووفق ما تقدم، لا يمكن وضع والاتفاق على عقد اجتماعي حقيقي خارج التشارك بين المكونات، وهذا التشارك لا يكون على مستوى محاصصة دينية أو إثنية أو طائفية، بل هو تشارك في مربع التقاطعات التي تجمع كل المكونات ولا تفرّق بينها.

لذلك، هل نستطيع وفق هذه الرؤية: أن نقول إن السوريين تجاوزوا هوياتهم الفرعية منذ زمن الاستقلال حتى هذه المرحلة؟ وهل يمكن تجاوز واقع الحال ما قبل الوطني، والانتقال إلى مربع الوطنية وترسيخها، بعد سقوط نظام الاستبداد الأسدي؟

إن العقد الاجتماعي الجديد المطلوب سورية، لا ينبغي أن يكون سقفه مرتفعاً خارج قدرة حوامله من المكونات الحالية، وبالتالي فالعقد الاجتماعي مثله مثل الهوية الوطنية يتغيّر بتغيّر الشروط المكونة له في كل مرحلة، وهذا يسمح بتعميق الهوية الوطنية، والانتماء الوطني، في ظل نظام سياسي، عقده الاجتماعي يتسم بالعدالة وبالمساواة العامة، حيال كل المكونات في الحقوق والواجبات، شرط ألا تضعف الحقوق من الانتماء الوطني، وهو الأعلى بين الانتماءات الأخرى.

السوريون معنيون بإيجاد مربع وطنيتهم، وهذا مفتاح خلاصهم من النظام الاستبدادي القهري، فما داموا خارج هذا المربع سيبقى النظام أو من يأتي من بعده من أنظمة غير شرعية أي غير منتخبة بشفافية، يضعفون تشكّل الهوية الوطنية لصالح بقائهم في الحكم.

المصدر السورية.نت


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا