الهيئة وإعادة تشكيل الفضاء الجهادي..ترتيبات داخلية ورسائل خارجية

في إطار تحولاتها التنظيمية التي بدأتها منذ العام 2014، وضمن محاولات التكيّف مع الواقع الحالي الذي فرضه اتفاق موسكو بين روسيا وتركيا في إدلب 5 آذار/مارس 2020؛ تسعى “هيئة تحرير الشام” إلى إعادة تموضعها وفرض نفسها كلاعب رئيسي مجدداً بعد أن تقلصت أدوارها تدريجياً مع انحسار الجغرافيا إثر العمليات العسكرية الأخيرة للنظام وحلفائه، وما قابلها من دخول أعداد كبيرة للجيش التركي وفصائل المعارضة المدعومة منه إلى إدلب، لتزاحم الهيئة على نفوذها.

 وضمن هذا الواقع تسعى الهيئة بقيادة الجولاني إلى استثمار وتوظيف عدة ملفات، على رأسها ملف الجهاديين، وخاصة الأجانب، في محاولة لإعادة تشكيل الفضاء الجهادي بشكل يخدم مصالحها، إذ تدرك “هيئة تحرير الشام” أن ملف الجهاديين الأجانب من أعقد الملفات الأمنية وأكثرها حساسية، نتيجة تقاطع المصالح الدولية والإقليمية على رفض وجودهم، وكذلك رفض دولهم استقبالهم لما يمثلوه من خطر عابر للحدود.

 ولم تكن سياسات الهيئة خلال الأعوام الفائتة مُرضية للكثير من الجهادين في صفوفها، سواء السوريين أو الأجانب، حيث ساهمت تلك السياسات والتحولات التنظيمية، خاصة التي تلت انفكاك الجولاني عن “تنظيم القاعدة”، بتنفير عدد كبير من الجهاديين الأكثر تشدداً، والذين اتهموا الجولاني بـ”التفريط والتماهي مع التفاهمات الدولية والإقليمية في المنطقة والتفرد بالقرار”، ما أدى إلى انزياحات متوالية داخل بنيتها وتسرب بعض القيادات والجماعات والخروج من عباءة الهيئة كأفراد وتنظيمات، خاصة تلك التي لاتزال ترتبط بتنظيم القاعدة وتعتبره مرجعيتها الجهادية، كتنظيم “حراس الدين”.

ولم تكتفي تلك القيادات والتنظيمات بالخروج عن الهيئة والعمل بشكل منفرد، خاصة مع استشعارهم طبيعة التفاهمات الدولية والإقليمية التي تضعهم على أولوياتها، إضافة إلى توجسهم من سياسات الهيئة في سياق تلك التفاهمات، والتي وإن لم تكن خطراً مباشراً حالياً؛ إلا أنها قد تصبح كذلك بعد حين.

وفي هذا الإطار اتجهت تلك التنظيمات لإعادة تجميع نفسها في غرفة عمليات جديدة تحت مسمى “فاثبتوا”، وذلك في محاولة لمواجهة انعدام الخيارات وتحسباً لسياسات الهيئة المستقبلية. وضمت تلك الغرفة، بحسب البيان الصادر عنها بتاريخ 12حزيران/يونيو، خمسة فصائل، هي: (تنسيقية الجهاد، لواء المقاتلين الأنصار، جماعة أنصار الدين، جماعة أنصار الإسلام، تنظيم حراس الدين). مشيراً إلى أنّ التشكيل الجديد جاء “دفعاً لصيال المعتدين، وكسراً لمؤامرات المحتلين”.

ويتزعم فصيل “تنسيقية الجهاد” القيادي السابق في “هيئة تحرير الشام” أبو العبد أشداء. بينما يتزعم فصيل “لواء المقاتلين الأنصار”، جمال زينية، الملقب بأبو مالك التليّ، والذي أعلن انشقاقه عن الهيئة في إبريل/نيسان الماضي، وظلّ التلي لسنوات أمير “جبهة النصرة” في القلمون الغربي وعضواً في مجلس شورى الهيئة. في حين يتزعم أبو عبد الله الشامي جماعة “أنصار الدين” التي كانت هي الأخرى أعلنت مطلع عام 2018 انفصالها عن “هيئة تحرير الشام” بعد أن كانت أهم الفصائل المنضوية تحتها. بالمقابل يتزعم تنظيم “حراس الدين” سمير حجازي، المعروف بأبو همام الشامي، التنظيم الذي بدأت نواته بانشقاق عدد من المجموعات إثر إعلان “الهيئة” فكّ ارتباطها بـ “تنظيم القاعدة”، ليظهر إلى العلن في أواخر شباط/فبراير عام 2018 وينضم إليه لاحقاً عدة مجموعات متشددة.

وقد انضوى تنظيم “حراس الدين” إضافة إلى باقي التنظيمات والجماعات السابقة في غرفة عمليات “فاثبتوا” التي ضمت عدداً كبيراً من المقاتلين والقياديين المهاجرين إلى جانب الكتلة الأكبر من السوريين، وينتشر مقاتلو التشكيل الجديد في أرياف اللاذقية وإدلب وحماة وحلب.

وبظهور غرفة العمليات الجديدة إلى العلن، وما استتبعتهُ من ردات فعل لـ “هيئة تحرير الشام”؛ تُطرح أسئلة عديدة حول مستقبل التنظيمات الجهادية خارج إطار “تحرير الشام” وأثرها على تموضع الهيئة، مقابل أثر الأخيرة على واقع تلك التنظيمات ومستقبلها. وعليه تسعى هذه الورقة إلى تقديم قراءة تحليلية في موقع “هيئة تحرير الشام” ضمن الفضاء الجهادي في سورية، وطبيعة علاقاتها مع تياراته المختلفة، خاصة الجهاديين الأجانب، وكيفية تعاطيها وإدارتها لهذا الملف وسط المتغيرات التي يشهدها الواقع السوري عموماً والتفاهمات الإقليمية والدولية التي تحكم الشمال بشكل خاص، وذلك لفهم وتحليل سلوك الهيئة في ظل تلك التفاهمات، إضافة إلى استشراف تصوراتها والرهانات المستقبلية لزعيمها.

هيئة تحرير الشام (إدارة الفضاء الجهادي)

بالرغم من أن غرفة عمليات “فاثبتوا” ضمن تركيبتها الحالية وما تضم من فصائل ومجموعات لا تبدو مهدداً حقيقياً لـ”هيئة تحرير الشام” على المستوى العسكري، وغير قادرة على تغيير المعادلة الميدانية لصالحها في الشمال الغربي من سورية؛ إلا أنها وبالوقت نفسه قد تُشكّل منافساً للهيئة خاصة ضمن الفضاء الجهادي الذي يسعى الجولاني لاحتكاره وتقديم نفسه كضابط وحيد لهُ، إذ لا يبدو أن “تحرير الشام” تخشى تلك الفصائل منفردة، بقدر ما تخشى تجمعها وتشكيلها لبديل أو مأوى جديد للجماعات الجهادية، خاصة الأجانب منهم، وتحديداً ضمن الظرف الحالي والمستقبلي الذي تستعد فيه الهيئة لإحداث تحولات حادة على مستوى السلوك والتنظيم، يُتوقع أن يحدث خلالها انزياحات جديدة ضمن بنيتها، تلك التي قد يساهم وجود أي تجمُع بديل بتشجيعها.

لذلك، يبدو أن الهيئة وبقدر ما تتجنب صداماً شاملاً مع تلك الفصائل؛ إلا أنها تحرص على إحباط أي محاولة لتجمعها، أو على الأقل المحافظة عليه بشكله الحالي دون توسع، والسعي إلى عزله واستثمار وجوده لصالحها، خاصة ضمن المناخ السياسي الذي يمر به الملف السوري والظروف الخاصة التي يعيشها الشمال. فبقدر ما يبدو تجمع “فاثبتوا” مقلقاً للهيئة؛ إلا أنه ووفق حركيّتها قد يشكل فرصة مهمة للاستثمار، إذ بوجوده يقع التمايز بين مجموعات متطرفة وأكثر تطرفاً، وبين جهادي عابر للحدود وآخر “محلي”، كما أن خروج تلك الكتلة من الأجانب والسوريين يخفف عن الهيئة عبئاً كبيراً في إطار محاولات تعويم نفسها كفصيل محلي دون ارتباطات عابرة للحدود. بل ويعطيها الفرصة لإثبات جدية تلك التحولات عبر التصدي لهم وضبطهم بما يتوافق مع سعيها لتقديم نفسها كضابط أمن المنطقة.

ولم يمضي أسبوع على إعلان تشكيل غرفة عمليات “فاثبتوا”، حتى جاء رد الهيئة بشكل غير مباشر ولافت، إذ لم يأتِ الرد عبر زعيم الهيئة أو مجلس شوراها، وإنما عبر مجموعات الأجانب التي تدور في فلك “تحرير الشام”، والتي أصدرت بتاريخ 18 حزيران/ يونيو، بياناً تحت عنوان “شكر وتأييد” أعلنوا خلاله: “دعمهم لـلهيئة وسياستها في المنطقة، مؤكدين “أنهم مع ما يقررونه السوريون من طريقة لسياسة البلد”، ومطالبين بـ “لزوم الجماعة، ونبذ الفرقة، ورص الصفوف لصد العدو” بشكل يشير إلى رفض غرفة العمليات الجديدة والانحياز إلى صف الهيئة في أي تطورات لاحقة.

ولعل تعمُّد الهيئة تصدير البيان باسم المهاجرين لم يكن اعتباطياً، وإنما جاء من ناحية في إطار الرد على مجموعات الأجانب بالجهة الأخرى ضمن إطار احتكار ورقة الجهاد والحفاظ بالحد الأدنى على “الشرعية الجهادية”. ومن ناحية أخرى، يبدو أن الهيئة تلوّح عبر هذا البيان بورقة السيطرة والقدرة على ضبط الجهاد العابر للحدود وتحركات المجموعات الأجنبية ضمن صفوفها، والتي أكدت أنها “تخضع للقرار السوري ضمن الهيئة”. ولكن من يتتبع الأفراد والمجموعات الموقعة على البيان، سيجد أنها تنقسم إلى قسمين؛ إما مجموعات ذات فاعلية محدودة، أو أُخرى ذات ثقل وفاعلية أوسع لكنها مضبوطة من قبل قوى إقليمية ضمن سياسات الهيئة، كالحزب الإسلامي التركستاني، والذي أكد الجولاني خلال مقابلته مع “مجموعة الأزمات الدولية” أنه “يلتزم بسياسات الهيئة”، فبحسب الجولاني، “لم يشكل الحزب أبداً تهديداً للعالم الخارجي، وهو ملتزم فقط بالدفاع عن إدلب ضد هجوم النظام، معتبراً أن “مقاتلي الحزب ليس لديهم أي مكان آخر يذهبون إليه، لذلك هم مرحب بهم هنا طالما أنهم يلتزمون بقواعدنا، وهو ما يفعلونه”.

ومع ظهور تجمع “فاثبتوا” مقابل صدور بيان المهاجرين المؤيد للهيئة، يعيد الجولاني تشكيل الفضاء الجهادي أو ما تبقى منه في سورية، عبر تقسيمه وكتلة الأجانب ضمنه إلى طرفين؛ تختلف طبيعة علاقة الهيئة مع كل منهما كما تختلف الأدوات. فالأول: يتمثل بغرفة عمليات “فاثبتوا” والتي باتت تحوي إضافة إلى السوريين مجموعات جهاديين أجانب تجمعهم عدة قواسم مشتركة، ويطغى على بعضهم الارتباط التنظيمي بالقاعدة “كحراس الدين”، وعلى بعضهم الآخر نفس القاعدة، إضافة إلى كونهم معارضين لسياسات الهيئة وأدائها الإداري والعسكري والأمني، ناهيك عن رفضهم اتفاقات “سوتشي” و”أستانا” وما تبعهما من تفاهمات روسية-تركية في المنطقة. وتعد طبيعة العلاقة بينها وبين “تحرير الشام” علاقة قلقة وحذرة ومتوترة، خاصة مع تنظيم “حراس الدين”، الذي يمثّل الثقل الحقيقي ضمن هذا التجمع، والذي اصطدم مع الهيئة سابقاً في اشتباكات متقطعة .

ولم تكتفي الهيئة بالبيانات للرد على تشكيل الغرفة الجديدة، ففي يوم صدور بيان المهاجرين المؤيد للهيئة قامت أمنيتها باعتقال سراج الدين مختاروف، المعروف بـأبو صلاح الأوزبكي، والذي ينضوي تحت “جماعة أنصار الدين” المنضوية تحت تجمع “فاثبتوا”، والمطلوب للانتربول الدولي ويعتبر العقل المدبّر لهجوم مترو “سان بطرسبرغ” في روسيا بتاريخ 3 من نيسان/أبريل 2017، ليتلوه بأربعة أيام 22 حزيران/يونيو اعتقال أبو مالك التليّ، والذي بررت الهيئة اعتقاله بـ”إثارة البلبلة والتشجيع على التمرد ومحاولات شق الصف وتمزيق الممزق”، عبر تشكيله لفصيل جديد وانضمامه لغرفة عمليات “فاثبتوا”. وبعد احتجاز التليّ بيوم واحد، قامت الهيئة أيضاً باعتقال توقير شريف، المعروف بأبو حسام البريطاني، والمشرف على كثير من الأنشطة الإغاثية في مخيمات أطمة بريف إدلب الشمالي ([6]).

وربما اللافت أكثر، أن تلك الاعتقالات سبقها بأيام اغتيال قياديين في فصيل “حراس الدين”، وهما أبو القسام الأردني، وبلال الصنعاني، عبر قصف جوي استهدف سيارتهما 14حزيران/يونيو من قبل طائرة مسيرة يرجح أنها أمريكية، العملية التي جاءت بعد يومين فقط من إعلان تشكيل فرغة عمليات “فاثبتوا” والتي انضوى ضمنها الأردني والصنعاني.

وعلى الرغم من نعيهما من قبل عضو مجلس شورى “تحرير الشام”، المصري يحيى بن طاهر الفرغلي (أبو الفتح) بشكل منفرد وليس رسمي باسم الهيئة؛ إلا أن تزامن الاعتقالات على الأرض والقصف من السماء أثار تساؤلات وإشارات استفهام عدة حول التناغم الغريب بين تحركات التحالف الدولي في السماء والاعتقالات التي نفذتها الهيئة على الأرض!، خاصة وأن استهداف التحالف تكرر وسط الاعتقالات التي تشنها الهيئة، ليعود وينفذ في 24 حزيران/يونيو غارة جوية استهدفت سيارة مسؤول الآليات في تنظيم “حراس الدين” أبو عدنان الحمصي، في ريف إدلب الشرقي، ما أدى إلى مقتله.

ويبدو أن توتر العلاقة بين الهيئة ومكونات هذا التشكيل قد تتجاوز الاعتقالات إلى الضلوع والتورط بعمليات اغتيالات ضمن صفوف تلك المجموعات، وفقاً لاتهامات بعض الأطراف الجهادية، والتي تستند إلى مؤشرات غير مباشرة، على رأسها أن أغلب عمليات الاغتيال التي ينفذها التحالف الدولي ضد قيادات تلك المجموعات تتم في مناطق سيطرة الهيئة الأمنية، كالاغتيال الأخير لقادة “حراس الدين” في مدينة إدلب، إضافة إلى استثناء قصف التحالف والولايات المتحدة لمقرات وقيادات الهيئة والتركيز على “الحراس” بالرغم من تصنيف الجهتين كمنضمات إرهابية، بل وتراجع حدة التصريحات الأمريكية التي تدين الهيئة خلال الأشهر الفائتة، خاصة بعد التصريح اللافت للمبعوث الخاص بواشنطن إلى سورية، جيمس جيفري، في تاريخ 5 شباط/فبراير 2020، والذي أوضح خلاله أن “الهيئة ركزت على محاربة نظام الأسد، كما أعلنت عن نفسها، -ولم نقبل بهذا الادعاء بعد -، بأنها تمثل مجموعة معارضة وطنية تضم مقاتلين وليس إرهابيين، كما أننا لم نشهد لهم مثلاً أي تهديدات على المستوى الدولي منذ زمن”.

إضافة إلى تلك المؤشرات، مثّل الظهور العلني والمتكرر للجولاني في الشمال مجالاً للتساؤل حول الحسابات الأمنية لهذا الظهور، تحديداً في الوقت الذي تتحرك فيه قيادات تلك المجموعات بشكل سري وحذر. كما اتهم بيان من قبل غرفة عمليات “فاثبتوا” الهيئة بتزامن اعتقال قياداتها مع تطبيق بنود التفاهمات الدولية، ملمّحة إلى تنسيق بين الهيئة وقوى إقليمية ودولية، خاصة وأن الجولاني ألمح لعرض حول هذا التنسيق خلال مقابلته مع “مجموعة الأزمات الدولية”، مؤكداً “حرصه على عدم تحول سورية إلى نقطة انطلاق لعمليات خارج الحدود، وإلى ضبط الفصائل الجهادية التي تحمل هذا التوجه”.

ويمكن القول؛ إن الهيئة وخلال سعيها لإحباط تجمع (فاثبتوا)؛ فإنها تنظر إليه كمجال استثمار لصالحها ومدخل للتنسيق الدولي والإقليمي، ومجالاً للتمايز وإثبات تحولاتها، وتعد العلاقة بين الطرفين قلقة ومتوترة ومرشحة للانفجار بشكل أكبر مستقبلاً، خاصة بعد الاستنفار الأمني ضمن غرفة عمليات “فاثبتوا” إثر اعتقال قياداتها، والذي تحول إلى اشتباكات متقطعة بين الهيئة وتنظيم “حراس الدين” غرب إدلب، ليتلوه مداهمة الهيئة لمقرات “جبهة أنصار الدين” بريف إدلب الشمالي، عقب اشتباكات بين الجهتين، والتي انتهت بإعلان اتفاقين متتالين للتهدئة وقع عليهما الطرفان (“فاثبتوا”، الهيئة)، واقتضى الأول وقف الاقتتال ورفع الحواجز والاحتكام لقضاء شرعي، بينما خُصصت تفاصيل الثاني لإيقاف الاقتتال في قرية “عرب سعيد”، واستطاعت الهيئة من خلاله فرض شروطها بأن “يحال بعض المدعى عليهم من قبل الهيئة إلى قضاء التركستان وأن يغلق مقر “حراس الدين” في “عرب سعيد” ويتعهدوا بعدم إقامة حواجز في القرية”. وبالرغم من تلك التهدئة المؤقتة والمحدودة؛ إلا أن أسباب الصراع لاتزال قائمة ومرشحة للانفجار بأي لحظة.

أما بالنسبة للكتلة الثانية من الأجانب الموقعة على بيان الـ “شكر وتأييد”، والتي تدور إلى الآن في فلك “هيئة تحرير الشام” كفصائل ومجموعات من جنسيات مختلفة، فتعد العلاقة بينها وبين الهيئة حتى الآن علاقة احتواء ومصلحة تنظيمية متبادلة، ففي الوقت الذي تنظر فيه تلك المجموعات إلى الهيئة كحامل محلي وكغطاء جهادي عسكري في ظل فوضى الشمال، وتتقاطع مع سياساتها في الفترة الحالية وتخضع لتصوراتها؛ فإن الهيئة بالمقابل، ترى تلك المجموعات أيضاً مجال استثمار لصالحها، سواء لناحية توظيف قوتها ضمن معاركها، أو لناحية الاحتفاظ بها وضبطها والتلويح بها كورقة في إطار تصدير نفسها كضابط أمن للمنطقة وللجهاديين ضمنها.

وما بين تلك الكتلتين للجهاديين الأجانب، يتفرق بعض المهاجرين كأفراد بين مجموعات عسكرية مختلفة لكن دون وزن أو عدد يذكر، كما أن البعض اعتزل القتال ولايزال داخل سورية يعيش حياة مدنية، مقابل العديد الذين غادروا الأراضي السورية بشكل غير شرعي أو قضوا خلال المعارك، لتبقى الكتلة الرئيسية من الجهاديين الأجانب على اختلاف جنسياتهم مقسومة بين الطرفين المذكورين سابقاً، واللذين يسعى الجولاني و”تحرير الشام” إلى استثمارهما بطرق وأدوات مختلفة،  في إطار سعي الهيئة لإدارة الفضاء الجهادي لصالحها ووفق تصوراتها وسياساتها العسكرية والأمنية والإدارية.

 فقد باتت “تحرير الشام” تفرض شروط ومحددات النادي الجهادي في الشمال الغربي من سورية، والتي لا تنطبق فقط على من هم ضمن صفوفها، وإنما تتعداها لمن يفكر بالخروج عنها، فقد أصدرت الهيئة بياناً إثر اعتقالها لأبو مالك التليّ، حددت خلاله شروط أمام القادة والعناصر الراغبين بالانشقاق عنها، والتي تمثلت بـ”عدم الانشقاق بشكل فوري قبل مراجعة “لجنة الإشراف والمتابعة العليا” حصراً، من أجل “إبراء الذمة”، كما حظرت على المنشقين “تشكيل تجمع أو فصيل مهما كانت الأسباب، أو الانتماء لأي تشكيل أو فصيل موجود في الساحة قبل مراجعة “لجنة الإشراف والمتابعة العليا”. لافتة إلى أن “المخالف لتلك الشروط سيتعرض للمساءلة والمحاسبة”.

الجولاني والمستقبل (رهان التحولات)

بالرغم مما يوحي به استثمار “هيئة تحرير الشام” في الملفات (الجهادي، الإداري، الأمني، الاقتصادي) من قوة وقدرة على إدارة وضبط عدة ملفات ومرونة في التعاطي مع الظرف السياسي القائم وتوظيفه لصالحها؛ إلا أنه وبالوقت ذاته يعكس في عمقه حالة من التخبط والضعف، خاصة وأنه يأتي في سياق تحولات تنظيمية تكتيكية لا تمت بأي صلة للأيديولوجيا ومراجعاتها، وضمن سياق رهانات مستقبلية غير مضمونة النتائج. ففي الوقت الذي تحقق فيه الهيئة مكاسب شكليّة؛ إلا أنها وخلال تلك التحولات تفقد بعض أوراقها تدريجياً.

فعلى المستوى العسكري، انحسر نفوذ الهيئة بشكل كبير بعد العمليات الأخيرة التي قادها النظام وحلفائه على أرياف حلب وإدلب، كما أن خروج أفراد ومجموعات (أجانب/سوريين) متشددة وعابرة للحدود من صفوف الهيئة، وبقدر ما يمثل عاملاً مساهماً في تعويمها كقوى محلية؛ إلا أنه وبالوقت نفسه يعد ضعفاً على المستوى التنظيمي، خاصة مع تحول تلك المجموعات إلى عدو محتمل في الساحة. ناهيك عن الدخول التركي الذي زاحم الهيئة على مناطق نفوذها، إضافة إلى عبور مجموعات مختلفة من “الجيش الوطني” و”الجبهة الوطنية للتحرير” إلى تلك المناطق.

أما على مستوى العلاقة مع المجتمع المحلي وما تعتبره الهيئة “حاضنة شعبية”، فتشهد منذ فترة طويلة تراجعاً حاداً يمكن قياسه بعدة مؤشرات، خاصة وأن تلك “الحاضنة” المفترضة كانت تعتمد في وجودها على عامل الأداء القتالي للهيئة ضد النظام والتعويل على أي قوى في الحماية من هجماته، الأداء الذي تشير المعارك الأخيرة إلى تراجعه بشكل لافت، خاصة وسط الحملة العسكرية التي سيطر خلالها النظام على الطرق الدولية (M4،M5) وما تخللها من انسحابات مفاجئة للهيئة، وما سبقها من معارك ريف حماة الشمالي.

 إضافة إلى أن عامل “حماية المدنيين” في الشمال، بات يرتبط بشكل مباشر بالوجود التركي على الأرض والفصائل المدعومة منه، وليس بالهيئة. ناهيك عن سلوك “تحرير الشام” في القمع والانتهاكات المتكررة بحق المدنيين، والتي ليس آخرها قمع الاعتصامات والمظاهرات والتعدي على الإعلاميين، إضافة إلى ملفات الاغتيالات والمعتقلين والمختفين قسرياً لديها والفساد المالي وغيرها العديد من الانتهاكات، والتي بات يعكسها المزاج الشعبي في إدلب من خلال المظاهرات والشعارات التي ترفع ضد الهيئة وزعيمها من قبل شرائح وفعاليات مختلفة، خاصة بعد توسع هيمنة الهيئة على مختلف قطاعات الحياة في الشمال السوري.

إذ لا يبدو سعي الهيئة مقتصراً فقط على احتكار الفضاء الجهادي، وإنما تقوم بالتوازي مع تحركاتها في الجانب العسكري والأمني، بمحاولات احتكار للملفين الإداري والاقتصادي أيضاً، عبر فرض حكومة الإنقاذ كطرف متحكّم ومنع تشكيل أي تجمعات تنافسه أو تستثنيه. وفي هذا الإطار منعت “هيئة تحرير الشام” تأسيس اتحاد عام للنقابات والاتحادات العامة في الشمال السوري، بعد مقاطعتها وإفشالها للاجتماع الذي دعت إليه أكثر من 12 نقابة في إدلب وحلب بتاريخ 22 حزيران/يونيو، من أجل تشكيل اتحاد يضم النقابات كافة في المنطقة. يترافق ذلك مع توسع الشبكات الاقتصادية للهيئة بطريقة معقدة، تبدأ من المعابر التجارية التي تسيطر عليها، وصولاً إلى نفوذ كبير في الشؤون المدنية والخدمية عبر حكومة الإنقاذ.

بالمقابل، تدرك الهيئة أن تراجع أولوية الجبهات العسكرية بالنسبة لها لصالح الضبط الأمني والسيطرة الإدارية والاقتصادية، سيكون له انعكاسه وأثره على المجتمع المحلي و”الحاضنة”، وفي هذا الإطار يبدو أنها تسعى إلى محاولات تعويض هذا النقص عبر الظهور المتكرر لزعيمها الجولاني خلال الأشهر الفائتة وتواصله مع الفعاليات المدنية والاجتماعية، والذي بدى أقرب لظهور مرشحي الانتخابات، إضافة إلى تصدير حكومة الإنقاذ كمسؤول مباشر عن إدارة المنطقة واقتصادها.

 وربما يكون هذا السلوك الإعلامي مفيداً على المدى القريب، لكنه وعلى المدى البعيد قد يعطي نتائج عكسية، إذ إن الهيئة كفصيل عسكري كانت مسؤولة عن الجبهات، وردات فعل المدنيين كانت مرتبطة بتلك الجبهات، بينما اليوم تحاول الهيئة ومن أمامها حكومة الإنقاذ تصدير نفسها كمسؤول عن كل شيء في إدلب، وذلك في ظل ظرف اقتصادي متردي وظروف أمنية متوترة، الأمر الذي سيجعلها مسؤولة عن كل الأخطاء التي تفوق الإمكانات، ما قد يشير مستقبلاً إلى زيادة حنق المدنيين في مناطق نفوذها.

ولا تبدو الهيئة خلال الفترة الحالية معنية بالمدنيين، إلا كورقة بيدها، بقدر ما تبدو معنية بالعبور والنجاة بالتنظيم من هذه المرحلة الحساسة واستثمار كل الوسائل في الحفاظ عليه وتمكينه وعزل المنافسين، عبر فرض نفسها كقوة أمر واقع. وبطبيعة الحال، فإن أي قوة أمر واقع لا تعتمد على شرعية داخلية حقيقية، بقدر ما تفرضها بقوة ذاتية (تغلُّب) أو بدعم وغطاء خارجي. وفي هذا الإطار تنظر “هيئة تحرير الشام” إلى الملفات (الإداري، الأمني، الاقتصادي) في إدلب كأوراق قوة على المستوى الداخلي، تفرضها كرقم يصعب تجاوزه على مستوى مستقبل حوكمة المنطقة، بينما تنظر إلى ملف الجهاديين، خاصة الأجانب، كأحد أهم المداخل للتنسيق الخارجي، ضمن محاولة لفرض نفسها عبر كل تلك الملفات كقوة أمر واقع ليس فقط على المنطقة ومدنييها، وإنما على الاتفاقات والتفاهمات الإقليمية والدولية التي ستحدد مستقبل المنطقة.

ومن خلال هذا السلوك، يمكن القول إن “هيئة تحرير الشام” تراهن في المدى القريب؛ على كسب الوقت والتراجع درجة أو أكثر على سلم أولويات المجتمع الدولي لصالح صعود الجماعات الجهادية في الطرف الآخر، وفرض نفسها كجزء من التفاهمات في المنطقة، وتجنب معركة استئصال شاملة عليها. ليبقى السؤال الأهم، على ماذا تراهن الهيئة والجولاني في المدى البعيد؟ وربما تصعب الإجابة على هذا السؤال حتى داخل صفوف الهيئة ومجلس شوراها، لكن يمكن استنتاج إجابة أوليّة من خلال سلوك الهيئة وزعيمها، والذي بدا أقرب إلى محاولة استنساخ نموذج “حركة طالبان” لناحية صراعها كقوة جهادية محليّة مع القاعدة كتنظيم عالمي، وانفتاحها على المفاوضات مع الولايات المتحدة، وفرض نفسها كطرف رئيس ضمن التسوية السياسية في أفغانستان.

وبالرغم من وجود قواسم مشتركة بين التجربتين في مخيال الهيئة، إلا أن خصوصية الواقع السوري وموقع سورية الأمني في المنطقة والإقليم وتعدد واختلاف اللاعبين الإقليميين والدوليين وكذلك البيئات؛ يفرض تناقضات أكبر بكثير من المشتركات بين التجربتين. كما أن انفتاح قوى إقليمية ودولية على الهيئة وفقاً لتقاطع مصالح مرحلي؛ لا يعني أبداً إمكانية تعويمها مستقبلاً، بقدر ما يشير إلى توظيف واستثمار لقيادة براغماتية تبدي مرونة عالية، مقابل استغلال الأخيرة للظرف القائم والهواجس الأمنية للاعبين الإقليميين والدوليين، وذلك ضمن معادلة تبادل مصالح قد تضمن للهيئة مكاسب في المدى القريب، ولكن ليس بالضرورة أن يكون ذلك على المدى البعيد.

 ختاماً، لا يمكن النظر إلى استثمار “هيئة تحرير الشام” في الفضاء الجهادي كسلوك أو استراتيجية جديدة، وإنما يمكن اعتباره حلقة من سلسلة بدأت منذ وجود “جبهة النصرة” في سورية بعد انفصالها عن تنظيم “الدولة الإسلامية”، ومبايعة “تنظيم القاعدة” (الهروب من الفرع إلى الأصل) ومن ثم إزاحة هذا العبء وفك الارتباط عنها والتخلص من تركتها الثقيلة، والتحول من “جبهة النصرة” العابرة للحدود إلى “جبهة فتح الشام” ذات البعد المحلي. ومن ثم تأسيس “هيئة تحرير الشام” والتخلص من أكبر قدر من العنصر الأجنبي والمحلي الذي لم ترضه تلك التحولات.

وخلال تلك التحولات التنظيمية، تجاوزت الهيئة مفهوم السيطرة والدور العسكري فقط، إلى محاولات توسيع النفوذ على عدة مستويات في إطار إطباق السيطرة على إدارة مناطق المعارضة، سواء عبر التغلغل في الإدارة المحلية وتأسيس حكومة الإنقاذ ومحاولة السيطرة على المجالس المحلية، أو على المستوى الاقتصادي عبر السيطرة على المعابر والطرقات الرئيسية والموارد الاقتصادية من خلال شبكاتها، أو على المستوى العسكري والأمني عبر استراتيجية إنهاء الفصائل وابتلاعها والتمدد بالهيمنة والنفوذ، والتي تعيد الهيئة استنساخها اليوم في الفضاء الجهادي.

وقد مثّلت تلك التحولات والانتقالات استثماراً للفضاء الجهادي بحسب ظرف كل مرحلة ومعطياتها. وخلال كل التحولات يبدو أن الهيئة باتت تعاني من قلق هويّة حقيقي، أشبه بذاك الذي وقعت فيه “حركة أحرار الشام” قبلها، والذي يتمثل بمحاولات التمايز والقطيعة مع الفضاء الجهادي العالمي، ولكن وبالوقت نفسه عدم التحول إلى قوة محليّة حقيقية. والمراوحة في برزخ لا هويّة له. الأمر الذي سيترك أثره على الإعداد العقائدي للعناصر وينعكس بشكل إرباك على مستوى التنظيم. ولعل اللافت في كل تلك التحولات أن الثابت الوحيد خلالها هو شخصية الجولاني، والتي باتت تمثل ذاكرة مشتركة وقاسماً مشتركاً بين تلك الانتقالات، لذلك فإن أي تصدير لنسخة جديدة من “هيئة تحرير الشام” ربما يستدعي مسح تلك الذاكرة وقطع الخيط الواصل بين كل تلك المراحل.

المصدر مركز عمران للدراسات الاستراتيجية


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا