خطاب نصر الله وتفكك مقولة وحدة الساحات

منذ اليوم الأول للحرب التي بدأتها إسرائيل ضد قطاع غزة، على إثر عملية “طوفان الأقصى التي شنتها حركة حماس ضدها، برز التساؤل عن إمكانية دخول إيران وتابعها حزب الله اللبناني في الحرب ضد إسرائيل، تحقيقاً للشعار الذي لم تتوقف أطراف المحور الإيراني عن طرحه طوال سنوات عديدة حول “وحدة الساحات”، لكن خلافاً لكل ذلك نأى نظام الحكم الإيراني بنفسه عن عملية حماس، وتنصل من أي مسؤولية بالاشتراك معها في التحضير أو التخطيط، بل حاول مسؤولون في هذا النظام تجيير دماء أهل غزة، والاستثمار فيها، لصالح مشروعهم التوسعي في المنطقة، في حين لم يتجاوز الأمر قواعد الاشتباك المعروفة على جبهة حزب الله اللبناني، عبر التحكم بالمناوشات، والسيطرة على عمليات تبادل القصف مع إسرائيل، كي لا ينكشف تخلي الحزب ومن ورائه إيران عن دعم حماس عبر الإيحاء باشتراكهم في الحرب، مع الحرص على ألا يبلغ ذلك درجة التصعيد المتدرّج نحو معركة مفتوحة مع إسرائيل.

اللافت هو أن الأمين العام “لحزب الله” اللبناني، حسن نصر الله، لاذ بالصمت طوال ما يقارب الشهر على عملية طوفان الأقصى، ليخرج أخيراً في خطاب سبقته مشاهد استعراضية وتسويقية، وانتظره كثيراً أنصار محور الممانعة والمقاومة، لكنه خيّب آمالهم وتوقعاتهم، حين اعتبر أن العملية “فلسطينية مئة في المئة”، وأخفتها حماس عن الجميع، بمن فيهم إيران وأتباعها في المنطقة، مع التشديد على نفي أي دور لإيران في عملية حماس، تماهياً مع تبرئة الساسة الأميركيين لها من المشاركة في العملية. وكان واضحاً أن جهد نصر الله الأساسي في خطابه، انصبّ على تأكيد صدقية الرواية الإيرانية، التي تزعم وقوفها في صف أطراف وقوى محور المقاومة، ولا تتخذ القرارات نيابة عنها، وأنّها “بريئة” من الهجوم الذي نفذته حماس على إسرائيل، ولا علاقة لها على الإطلاق بقرار حزب الله الدخول في مناوشات محدودة مع إسرائيل، والتي أراد تصويرها على أنها دخول في الحرب منذ اليوم التالي لعملية حماس.

لم يكترث نصر الله في خطابه بما حملته مواقف بعض قادة حماس السابقين، مثل خالد مشعل وموسى أبو مرزوق، من انتقاد وعتب على حزبه، نتيجة عدم انخراطه أكثر في الحرب مع إسرائيل، إضافة إلى عتب إسماعيل هنية الشديد على إيران التي اكتفت بإرسال وزير خارجيتها، حسين عبد اللهيان، أكثر من مرة إلى بيروت والدوحة، ليطلق العديد من العبارات المعسولة، التي لا تخرج عن سياق التضامن الدبلوماسي مع حماس.

على الأرجح أن نصر الله أراد التنصل مما حملته الانتقادات الحمساوية، والنأي بنفسه عن أي تبعات، لذلك لم يأت أبداً على ذكر مقولة “وحدة الساحات”، التي كان يرددها سابقاً في جميع المناسبات، بل يبدو أنه تخلى عنها بالقول إن المعركة الجارية هي بالدرجة الأولى معركة حركة حماس، وهي التي تقرر حاجات الانخراط فيها، ودرجة الانخراط. في حين اكتفى بترداد معزوفة أن كل الخيارات مفتوحة، ومرهونة بتطورات الحرب على قطاع غزة، لكن الأهم هو أنه أكد على النأي بحزبه عن الانخراط بالحرب، وكأنه أراد طمأنة ساسة إسرائيل وجنرالاتها بأنه يلتزم بتحذيراتهم وتهديداتهم، وبالحدود المعينة من المناوشات في المناطق الحدودية، وبعيداً عن العمق الإسرائيلي. إضافة إلى تأكيد حرصه على عدم إطلاق أي تهديدات للأميركيين على الرغم من حشدهم الأساطيل في البحر المتوسط، ودعهم الكبير لها، بل واشتراكهم في الحرب إلى جانب إسرائيل.

كان واضحاً منذ البداية أن قرار انخراط حزب الله في الحرب من عدمه هو شأن إيراني، وأن كل الميليشيات الموجودة في لبنان وسوريا والعراق، التزمت بمرجعيتها الإيرانية في ضبط عملياتها ضمن خطوط معينة، وألا تتجاوزها الهجمات المحدودة التي تنفذ على الحدود اللبنانية الإسرائيلية، وتلك تقوم بها الميليشيات في العراق وفي اليمن من قبل الحوثيين، وحتى التحرشات من سوريا التي تقوم بها قوى وميليشيات مرتبطة بإيران، وذلك على الرغم من أن مسؤولين إيرانيين سبق أن تحدثوا عن خطوط حمر ستضطرهم إلى الدخول في الحرب، من دون تحديد ماهية الخطوط، ما يضع تصريحاتهم في خانة الاستهلاك الرخيص، الموجهة لقواعد وأنصار محور الممانعة.

لا شك في أن غالبية اللبنانيين يهمهم كثيراً عدم دخول حزب الله في حرب، لأنها تعني إلحاق دمار كبير ببلدهم، وأنهم سيدفعون الثمن الباهظ لها، مثلما دفعوه في حرب 2006، خاصة في ظل التحذيرات الأميركية والإسرائيلية من مغبة إقدام الحزب ومن خلفه إيران على ذلك، كونه سيستدعي هجمات مضادة مباشرة ضدهما، وقد تكون مدمرة، وبالتالي عدم دخول حزب الله أو إيران في مواجهة مع إسرائيل دافعه الأساسي هو تفادي التكاليف الباهظة التي قد يدفعانها، لذلك أراد نصر الله إيصال رسالة إلى إسرائيل والولايات المتحدة بعدم رغبته في التصعيد، وهو ما يفسر أن إدارة بايدن باتت مطمئنة ومسرورة لعدم دخول حزب الله في المعركة بشكل مباشر، وعدم رغبته في توسيع نطاق الاشتباك على الحدود، وبالتالي فإن الخاسر الوحيد هو الشعب الفلسطيني الذي تشن ضده إسرائيل حرب إبادة جماعية وترتكب أبشع المجازر بحقه.

إذاً، تمزقت يافطة “وحدة الساحات”، وظهر أن حماس وكأنها حقاً في ورطة، يدفع ثمنها أهالي غزة، في حين بدأ، بالمقابل، البازار الإيراني لقبض الثمن لقاء قبول ساستها أو على الأقل تخليهم عن وحدة الساحات، وعما يحاك للفلسطينيين في قطاع غزة، وربما يريد النظام الإيراني من الإدارة الأميركية قبض الثمن في سوريا، والأمر يتعلق بمدى استعداد هذه الإدارة، التي لا تكترث بمشاريع إيران التوسعية إلا إذا اقتربت من إسرائيل.

لا يبدو أن توسيع دائرة الحرب يصب في مصلحة إيران، لذلك فهي غير عابئة بما تقوم به إسرائيل، بل مستفيدة من سعي الإدارة الأميركية لاحتواء المواجهة الحالية، وبقائها متقصرة على فلسطين، وتفهم هذه الإدارة جيداً الرسائل الإيرانية الساعية إلى التفاوض أكثر بكثير من سعيها إلى توسيع نظاق الحرب، لكن كل ما يهمها حالياً هو التغطية على ما تقوم به إسرائيل من جرائم ضد الفلسطينيين.

المصدر تلفزيون.سوريا


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا