روسيا “الوسيط” في إدلب

يبدو أن الروس قد فوجئوا برد الفعل الصاعق للأتراك على مقتل عسكرييهم ، ويحاولون التلطي وراء اتهام الأتراك بعدم إطلاعهم على تحركاتهم ، والتحجج بصعوبة الوضع وتعقيداته على الأرض . يقول رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الإتحاد كونستانتين كوساتشيف على حسابه في الفايسبوك ، كما نقلت نوفوستي ، بانه حين يسأله الصحافيون عن ما يجري في إدلب ، يعترف فوراً بأن صورة ما يجري هناك ليست واضحة ، وبأن تقويمات الأطراف للوضع متناقضة كلياً. لكن الأمر الوحيد الواضح والواثق منه كلياً كوساتشيف ، هو أن الإتفاقات الروسية التركية حول مناطق خفض التصعيد ، وحول الدوريات المشتركة في الشمال السوري ، تتعرض لاختبار جدي. وأعرب الرجل عن ثقته بأن مسؤولية الحفاظ على هذه الإتفاقات تقع على الرئيسين الروسي والتركي ، وهو يثق بأنهما ، وكما في السابق ، سوف يعملان بشكل منسق ومسؤول ومثمر، وبتجرد عن العواطف ، إذ لا بديل عن ذلك برأيه .

وكانت نوفوستي قد نقلت أيضاً عن الرئيس السابق لهيئة التعاون العسكري الدولي في وزارة الدفاع الروسية الجنرال ليونيد إيفاشوف ، قوله بأنه يامل بأن القيادة الروسية ، وخاصة الرئيس بوتين ، سوف “يُبرّد أردوغان” ، وأن السوريين سوف ينصتون إلى رأي القيادة العسكرية في مجلس المصالحة الروسي في سوريا . وقال بأنه يعتقد، بأن النزاع لن يتطور ، وبأنه كان نتيجة صدفة ، حيث اعتقد الجنود السوريون بأن الأتراك هم من المقاتلين الأعداء. وشكك الرجل برواية الأتراك حول عدد قتلى العسكريين السوريين (76 قتيلاً) ، وقال بأنه دوماً يجري تضخيم الإنتصارات في ساحة المعركة ورفع أرقام خسائر الطرف المعادي ، ويؤكد بأن خسائر جيش النظام كانت أقل من ذلك .

كلام هذين المسؤولين الروسيين جاء قبل ساعات من الإتصال الهاتفي بين الرئيسين التركي والروسي مساء أمس الثلاثاء في 4 من الشهر الجاري، وأكدا فيه على التقيد الصارم باتفاقات إدلب ، وتعزيز الجهود المشتركة لتحييد المتطرفين. ونقلت نوفوستي عن الكرملين ، بأن بوتين لفت انتباه الزعيم التركي إلى الإرتفاع الشديد في نشاط الإرهابيين ، في حين قال إردوغان بأن القصف على العسكريين الأتراك وجه ضربة للجهود المشتركة لحفظ السلام في سوريا ، وأكد أن تركيا ستواصل استخدام حقها بحماية نفسها من مثل هذه الهجمات .
اللافت في كلام المسؤلين الروس وتعليقات الإعلام الروسي الدائر في فلك الكرملين ، هو محاولة التملص من المسؤولية عن ما يجري في إدلب الآن من سفك للدماء وتهجير مئات آلاف السوريين ، وتصوير روسيا بأنها تقف موقف الوسيط ، الذي يسعى إلى الحؤول دون توسع رقعة الصراع . وكانت صحيفة الكرملين “VZ” شديدة الوضوح في التعبير عن سعي روسيا إلى التموضع في موقع الوسيط هذا ، حيث نشرت الإثنين المنصرم مقالة بعنوان “الثأر التركي من الأسد يغدو تحدياً لروسيا” . قالت الصحيفة ، بأن إردوغان اتهم نظام الأسد في قتل ستة عسكريين أتراك في محافظة إدلب ، وقام الأتراك ، رداً على ذلك، بتوجيه ضربات إلى القوات النظامية السورية ، وأصبح الوضع شبيهاً ببداية حرب تركية سورية كبيرة ، ليس لدمشق فيها حظوظ كثيرة بالنصر . وتتساءل الصحيفة ما إن كانت ستتمكن روسيا من إخماد صراع شرق أوسطي جديد .

تسترسل الصحيفة بعد ذلك في استعراض الأحداث ، التي سبقت الضربة التركية لقوات الأسد ، وفي المقارنة بين قدرات الجيش التركي ، وقدرات جيش النظام السوري والقوى الحليفة له . إلا أنها لا تأتي على ذكر الطيران الروسي والقوات الروسية الأخرى الداعمة لقوات الأسد ، مثل القوات الخاصة التابعة للمخابرات الروسية FSB (KGB سابقاً)، التي كشف عن تواجدها في سوريا مقتل الضباط الروس الأربعة مطلع الشهر الجاري . تخلص الصحيفة من كل ذلك إلى تأكيد المؤكد من أن ميزان القوة هو لصالح الأتراك ، وأنهم سوف يحرزون النصر في حال المجابهة المباشرة . لكن الصحيفة تتساءل على لسان خبير تستضيفه ، ما إن كانت روسيا ستسمح للأتراك بمثل هذا الإنتصار ، وتؤكد بأن روسيا سوف تقوم بالتزاماتها التحالفية أمام سوريا “مهما كانت العمليات العسكرية والسياسية ، التي تقوم بها أنقرة” . وتنقل الصحيفة عن خبيرها هذا قوله ، بأن الزعيم التركي لن يقدم على توتير واسع للصراع ، لأن مثل هذا الأمر يهدد بنسف الإتفاقات الرابحة بالنسبة لتركيا مع روسيا ، بما فيها الإتفاقات مع موسكو بشأن سوريا.

كما تنقل الصحيفة عن خبير آخر تستضيفه قوله ، بأنه لا يستبعد تبادل الضربات مجدداً بين جيش النظام السوري والجيش التركي ، إلا أنه يستبعد ، شأن زميله ، أن تبلغ الأمور حد الحرب الشاملة . ويقول بأن ممثلي موسكو قد توجهوا ، على الأغلب ، إلى دمشق وأنقرة من أجل المفاوضات ، ولن نشهد تصعيداً عسكرياً لاحقاً ، لأن روسيا تسعى لإخماد بؤر التوتر هذه ، لأن “من صالحنا التعاون مع سوريا ، لكن من صالح روسيا أكثر التعاون مع تركيا” ، ويعتقد بأن الطرفين سوف يشتمان بعضهما ، ويتبادلان التعابير القاسية ، وينتهي الأمر عند ذلك.

موقع “rosbalt” المعارض والمتهم باليسارية ، وفي مقابلة مع المستشرق ألكسندر شوميلين بعنوان “الكرملين يربح ماء الوجه ويخسر المواقع” ، ينقل عنه قوله ، بأن الريادة في ثنائية بوتين إردوغان تنتقل حالياً إلى الرئيس التركي. ويقول الموقع في مقدمة المقابلة ، بأن الضربات التركية الأخيرة لقوات الحليف الرئيسي  لموسكو ، ليست الخطوة غير الودية الوحيدة ، التي يقوم بها إردوغان تجاه الكرملين . ففي الوقت عينه ، الذي أعلن فيه الزعيم التركي عن هذه الضربات ، وصف عشية زيارته إلى كييف ضم القرم إلى روسيا بأنه إحتلال ، وعبر عن قلقه على وضع تتار القرم في شبه الجزيرة . كما كان قد أعلن قبل ذلك الوقت ، بأنه لن يطيق وجود المرتزقة الروس في ليبيا ، كما عبر عن استيائه من امتناع روسيا عن تقديم تكنولوجيات إنتاج منظومات صواريخ S-400 إلى تركيا .

صحيفة “NG” ، التي تسمي نفسها مستقلة ، تنقل عن الخبير في المجلس الروسي للعلاقات الخارجية أنطون مارداسوف قوله ، بأن موسكو لا تزال في طور البحث عن التوازن بين العلاقات مع أنقرة ، وبين تثبيت مواقعها داخل الدوائر العليا للسلطة السورية . ويقول بأنه من الصعب التوفيق بين هاتين المهمتين ، إذا أخذنا بالإعتبار خصوصية السياسة الخارجية الروسية في سوريا ، حيث يقوم العسكريون وأجهزة المخابرات الروسية ، منذ زمن بعيد، بإزاحة الدبلوماسيين إلى الخلف . ويرى مارداسوف بأن موسكو تستفيد من التعاون التكتيكي بين المعارضة السورية والجماعات الراديكالية لتبرير هجوم جيش النظام في إدلب. وتخشى موسكو، برأيه ، من أن تؤدي عودة النازحين إلى تعزيز موقع المتمردين ، الذين سيبقون مستقلين عن دمشق ، إذا ما استمروا يتلقون الدعم من تركيا ومن الإتحاد الأوروبي.  ويرى الرجل أن موسكو تأمل في أن تسوي الوضع مع أنقرة ، حتى في ظل أكثر السيناريوهات سلبية في إدلب ، لأن لدى البلدين مجالات أخرى للتعاون تتمثل في الإنفصالية الكردية والنزاع المسلح في ليبيا .

ثمة شبه إجماع وسط الكتاب السياسيين الروس في معظم المواقع الإعلامية الروسية ، على أن إردوغان ليس حليفاً لبوتين ، لكنه شريك صعب يثق بأن بوتين لن يتخلى عن شراكته حالياً ، مهما تقلبت الأحوال في إدلب .  ولتفادي إحراج عدم المواجهة مع إردوغان ، يدعي بوتين لعب دور الوسيط في مجزرة إدلب ، على الرغم من كل الدمار والدم ومئات آلاف المهجرين ، التي يتحمل بوتين قسطاً أساسياً من المسؤولية عنها.

المصدر المُدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا